هي لحظة أبدية تلك التي تلامس فيها أول شعرة من رأس الفرشاة الورقة البيضاء، والملائكة لا تجزع من الانتظار، وفي كلّ مرة يقف المَلَك ساكناً حتى يسمع جواب الفرشاة، ليسمح لها بعد ذلك بأنْ تبدأ انزلاقها على سطح الورقة المتعطشة للحبر.
الحقيقة هي أنّ في سؤال المَلَك خُدعة، فما يهمّه ليس اختيار الفرشاة بين هذا وذاك، بل رضوخها لفكرة الاختيار أصلاً، فإنْ اختارت الشكل وحده يظل المَلَك مطمئِناً ويغادرها لتفعل ما تريده على الورقة، وإنْ اختارت المعنى وحده يفعل الشيء نفسه، لأنّه ليس في أحدِ الاختيارين ما يُقلِق. إذن ما الذي يخشاه هذا النورانيّ؟ هو يخشى تلك الحالات النادرة التي يطول فيها صمت الفرشاة، يطول تفكيرها في مدى وجوب الاختيار أساساً، وتذهب بخيالها لهندسة أجوبة غير التي سمح بها المَلَك، ثم تقول: الاثنين معاً، أريد الشكل والمعنى.
حينها سيعرف المَلَك أنّ الفرشاة اختارت أنْ تتجلّى، وأنْ تجعل من سطح الورقة نافذة تصعد من خلالها إلى العالَم الذي جاء منه المَلَك، وأنْ يكون حوار خطوطها لا مع العين أو العقل بل مع الروح. سيعرف المَلَك حينها أنّه لن يستطيع مغادرة الفرشاة حتى تنهي عملها، ليتأكد أنّها لم تتعدَّ في اختراقها للحدود الدنيوية كلّ الحدود، وأنّه ما زال هناك ما يستر ما يجب أنْ يظلّ مستوراً. سيقول المَلَك في نفسه: هذه فرشاة متهوِّرة، وهذه ورقة خطِرة، فقد بالغتْ في اقترابها من الحقيقة.
أردت أنْ أعرض في هذه المقدمة — بشكلٍ مجازيّ — أهم الأفكار التي طرأت علَيّ خلال زيارتي لمعرض الفنان التشكيلي فريد عبدال في "كاب" (منصة الفن المعاصر)، تحت عنوان "الريشة والقافية، أشعار في الخط". نقطة الانطلاق لأعمال هذا المعرض هي الخط الذي يُكَوِّن الحرف العربي، ويبدو أنّ الفنان سعى لاكتشاف أكبر عددٍ من طُرُق رسم هذا الخط، بالإضافة إلى تسخيره لتأدية أكبر عددٍ من المهام: فهو هنا عريض وواضح وجلي وهناك رفيع ومتشابك ومبهم، كما أنّ فيه روح الخطوط العربية الأصيلة في حين وفي حينٍ آخر يكون قد استعار روح أبجديات آسيا الشرقية، أو أنه دمج بين تلك الروحين ليبتكر نمطاً جديداً، وضِفْ إلى ذلك تبدُّل مصدر الكلمات التي يرسمها الخط فهي تارة آيات قرآنية (مثل "وثيابك فطهّر" و"فكذبَتْ وهو من الصادقين") وتارة تكون كلمات منفردة لها طابع إيجابي (مثل "السلام" و"التقوى") وتارة تكون ذات طابع سياسي وتحفيزي (مثل "فلسطين" و"المواجهة") وفي تاراتٍ أخرى أشياء أخرى يصعب حصرها هنا، بل ربما يكون الدافع من وراء تنوّعها الكبير هو تفادي إمكانية الحصر السريع. نرى هنا الخط الطامح إلى التمدّد والاتّساع، لا في شكله فقط، بل في طبيعته أيضاً.
سأحاول شرح هذه الأفكار بطريقة أدقّ من خلال تحليل لوحتين من المعرض:
لوحة بالألوان المائية والحبر على الورق، بعنوان "وثيابك فطهِّر"
بالمقارنة مع غيرها في المعرض تميل هذه اللوحة إلى البساطة، ولذلك فمن المفيد التدقيق في عناصر بنائها لكي نفهم الاستخدامات المختلفة للخط الموجودة في أعمال المعرض كافّة. نرى هنا ثلاثة أنواع من الكتابة وهي كلّها اقتباسات من سورة "المُدَّثر". النوع الأول والأكبر مُتمثِّلٌ في كلمة "فطهِّر"، التي كُتبت فاؤها مفصولة وباللون البني البرتقالي، وتحتها بقية الكلمة باللون الأسود، إلا أنّ عصا حرف الطاء في طلوعها العَمودي تخترق الأفق الذي تمدَّه الفاء، وعند هذا التقاطع يسيل الحبر الأسود في الجسد البرتقالي. لا أعرف لماذا تخيّلتُ الفاء فضاءً والطاء طعناً وكلاهما معاً مثل ظاهرة كونية: ارتطام مجرّتين في حربٍ عملاقة، مثلاً.
أما النوع الثاني من الكتابة فهو مُتمثِّل في كلمة "وثيابك" وهي أصغر حجماً من النوع الأول، مكتوبة باللون الأحمر في الزاوية السفلية اليمنى. أكثر ما جذب انتباهي في هذه الكلمة هي طريقة رسم حرف الواو الذي تمّ عكسه، فأصبح ميلانه في أول الكلمة يجاري ميلان حرف الكاف في آخرها، وبذلك أعطى الكلمة توازنَ شكل الهَرَم: عريضاً وثابتاً في الأسفل، ومتقلصاً وطالعاً في الوسط، ومدبّباً في الأعلى. يعطي هذا التكوين المتناظر للكلمة طابع الأيقونة، وبذلك يتردّد الناظر إليها بين قراءتها ككلمة عربية (من اليمين إلى اليسار، حرفاً تلو آخر) وبين اعتبارها صورةً كاملةً يجب فهمها بصفتها شكلٍ موَّحدٍ (من الخارج إلى الداخل، أو من الطابع العام إلى التفصيل الصغير).
أما النوع الثالث فهو مُتمثِّلٌ في خطٍ بنفسجيٍّ رفيعٍ عليه تشكيلٌ أخضرٌ، هي الآيات 11 إلى 25 من سورة "المُدَّثر". يلفّ هذا الخط ليصنع من تلك الآيات إطاراً مربّعاً يحصر في حيّزه كلمة "فطهِّر". ما تحدّد رؤيتنا لهذا الخط — بين كونه شكلاً هندسياً أو عباراتٌ قرآنية ذات معانٍ ومشاعر — هي المسافة التي نقف عليها من اللوحة. عندما نبتعد نراه شكلاً وعندما نقترب نراه حروفاً وكلمات ومعاني. ولكن هناك مفارقة، فعندما نقترب بما فيه الكفاية لقراءة هذه الآيات سنكون قد اقتربنا إلى درجة فقدان القدرة على قراءة النوع الأول من الكتابة (أي كلمة "فَطَهِّر") لأنّ خطّها العريض يتطلّب أنْ نبتعد عن اللوحة عدة خطوات لنقرأه بشكلٍ مريح، وعندما نُسرف في الاقتراب تتحوّل حروفه المقروءة إلى مسارات انسيابية تجريدية.
بهذا التباين تصبح اللوحة تجسيداً لفكرة ترنّح العمل الفني بين الشكل والمعنى، فعلى كلّ مسافة نقف عليها تتحول بعض الأشكال إلى رموز وفي نفس الوقت تتحول بعض الرموز إلى أشكال، لتصبح حركة الناظر ضرورة لا بدّ منها إذا أراد الإحاطة بكلِّ جوانب اللوحة: اقتراباً وابتعاداً، تفصيلاً وتعميماً.
لوحة بالألوان المائية والحبر على الورق، بعنوان "طلاسم المصباح"
تتميّز هذه اللوحة عن سواها بأنها الوحيدة التي يظهر فيها رجلٌ مرسوم، وليس مكتوباً، أي إن أكثر خطوطها رُسمت لتحديد ملامح الرجل فقط، وذلك بخلاف الوجوه الأخرى التي نراها في أعمال المعرض (مثل لوحتي "وجهان في واحد" و"المواجهة") حيث إنّ خطوط الوجه تكون خطوط الأحرف العربية ذاتها. ونتيجة لهذه الميزة، فإنني شعرت بأنّ هذا الرجل الظاهر في اللوحة — وسيم الطلة، وديع النظرة، باسم الفاه، ذو الهالة الذهبية حول رأسه — لربّما يكون حامل المفتاح لفهم باقي أعمال المعرض. شعرت بأنّه ليس مجرّد وجهٍ آخر، بل صاحب الشأن هنا وحافظ الأسرار ووِجهة الزائر المحتار إذا ما هام في المعرض ولم يفهم شيئاً. أكثر ما يرمز إلى هذا الدور الجوهري للرجل هو أنّه يريح ساعده على إطار اللوحة وقد أرخى أصابعه المسالمة إلى ما هو خارجها، كأنّه يبيّن لنا أنّه جزء من العمل الفني من ناحية وجزء من عالمنا الخارجي من ناحية أخرى: هو العابر بين الضِّفَّتين والمُترجم بين المَنْطِقَين.
للكلمات ثلاثة مواضع في هذه اللوحة. الموضع الأول هو على جانبي الرجل، كلمات منفصلة باللون الأحمر يجب قراءتها أفقياً مثل الكتابة الشرق آسيوية، وهي تقتبس من القرآن هذه العبارة من سورة "النور": "مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ". أما الموضع الثاني فهو في أسفل اللوحة حيث يتداخل سطران قد كُتبا بالأسود وزُيّنا بالذهبي، هو اقتباس من أحد أشعار ابن العارض الذي يقول أول أبياته: "أوَميضُ بَرْقٍ بالأُبَيْرِقِ لاَحا / أم في رُبَى نجد أرى مِصباحا". وأما الموضع الثالث — والأهم — فهي الكلمات المنقوشة على الرجل نفسه، إما على درعه الملوّن ومن بينها حروف القرآن المقطعة (مثل "ألم" و"كهيعص") وإما كالموجودة على كتفه الأيسر وهي أبيات منسوبة إلى الإمام علي، مطلعها: "لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً / فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ".
بخلاف ما نراه في بقية اللوحات حيث تكون الأحرف هي اللبِنات التي تُصنع منها عناصر الأشكال الأساسية، نلاحظ هنا أنّ الأحرف أصبحت أدوات يوظّفها هذا المحارب / الشاعر / النبي لِيَحْرُزَ بها روحه ويحثّها على ملازمة طريق التجلّي والارتقاء، طريق النور والبصيرة. هذه الكلمات التي اكتساها وطوّق بها جسده وجعلها ترسم إطار وجوده هي وسيلته ليعْبُر من حالة إلى حالة أرقى: من الصورة إلى الواقع، من الرمز إلى المرموز، ومن الأرض إلى السماء. ولأنّ ملامحه مرسومة وليست مكتوبة، فهو أقرب ما يمكن أنْ يكون إلينا نحن، زوار المعرض، فهو صنيعة الحبر ونحن صنيعة الطين — أبناء المادة الطيِّعة — الكلمات مصباحنا الألمع في ظُلمة هذا العالم، أفنجعل هذا القدّيس قُدْوَتنا في طريقة انتفاعه من هذه الكلمات؟
خرجتُ من المعرض وأنا أشعر بشيء ما، إلا أنني وجدت صعوبةً في التعبير عن ماهيّته. فرغم أنّ للكلمات التي فكَكْتُ حروفها خلال مشيتي بين اللوحات معانيها الخاصة — الواضح منها والمبهم — إني أشكّ في أنّ تلك المعاني الضيّقة هي الرسالة الأهمّ للمعرض. لربّما تكون هذه الكلمات مجرّد إشارات أولية، مثل الشَرَر الذي يشعل النار العظيمة، تدفعنا إلى بدء رحلاتنا الشخصية للبحث عما نتوق إليه من معنى وحقيقة. لربّما تكون رسالة هذه اللوحات هي — رغم أنّنا نعيش في زمن الانجذاب للمادة والانبهار بالتقنية — أنّنا ما زلنا تلك الأرواح التي لا تجد الهدوء ولا تستلذ الحياة ولا تتحصَّل الرضى إلا من خلال الإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى. لربّما تكون توصية اللوحات لنا هي أنْ نستفيق من سباتنا وننتبه، فهناك ما هو أكبر وأغنى، ما هو أعمق وأوقع، وما هو أكثر استحقاقاً لاهتمامنا مما يملأُ حياتنا اليومية من تفاهات. لربّما تقول اللوحات لنا: إذا كان هذا ما يمكن أنْ يُكتب ويُقرأ ويُفهم، فأين هي المعاني الحقّة التي لا يمكن أنْ تُجسَّد بالحروف وبالخطوط؟