قصة البيت عديم الممرات


قالوا له، ذلك الذي يبني بيته: تأكد من استغلال كل مترٍ من أرضك فكلما أوسعت من الغرف وأقصرت من الممرات كنت أنت الرابح. إعلم أن خريطة البيت حربٌ بين المساحات النافعة والمساحات المهدورة، وتكثر في هذه الحرب الخدع، فكم من تغيير في الخريطة ظاهره انتصار للفاعلية وحقيقته إضاعة للمساحة وخسارة للمال والمنفعة. عدوك الأشرس في حرب الإستغلال هذه هي الممرات، هي تظهر وجه الخدمة فتقول: أنا أربط بين أعضاء البيت وأجعل تنقلك بين غرفة وأخرى سهلاً ومريحاً، و لكن في الحقيقة الممرات أشبه بالأفاعي السامة، هي تلتوي على الخريطة و تأكل من مساحات كل غرفة تجاورها، هي أيضاً تبعد بين أطراف البيت فتسم الحياة العائلية وتقتل حميميَّتها. يا من يبني بيته إلغي كل ممر من خريطتك لتسعد.

راح ذلك المسكين بما تعبّأ من عداوة للممرات إلى مصمم البيت، فرمى الخرائط على الطاولة وعليها آثار شخبطات جنونية وقال: أريدك أن تقتلع كل ممر من هذه الخرائط فكما علمت للتو أن الممرات تشبه النباتات الشريرة، إذا لم تُقتلع فإنَّ جذورها تنتشر إلى كل زوايا البيت فتمتص المساحات و تفسد الفضاءات. فعل المصمم كما أُمر فصارت غرف البيت على الخريطة مربعات متلاصقة دون مساحات فاصلة مثل العتبات أو الردهات أو الممرات.

بعد انتهاء البناء صار من يدخل البيت يجد أن بابه الرئيسي يؤدي إلى وسط صالة الإستقبال مباشرة، والصالة متصلة بغرفة الطعام دون حاجز، ومن هناك بابٌ في وسطِ الحائط يفتح إلى المطبخ الرئيسي. الوضع مشابه في الطابق الأول حيث أن صالة المعيشة تحيطها عدة أبواب يؤدي كلٌ منها إلى غرفة نوم. خلا البيت من أي ممر و كان المسكين وعائلته المسكينة فخورين بذلك، فعندما دخلوا البيت أول مرة وقفوا وسط صالة المعيشة يوجهون ابتساماتهم في جميع الإتجاهات ويمتدحون ذكاء بعضهم البعض.

لم تطل مدة معيشتهم في البيت حتى بدأت المشاكل في الظهور. فكلما استضافت المسكينة صديقاتها في صالة الإستقبال ارتبكت حركة العائلة، فدخول المسكين والأولاد إلى البيت أو خروجهم منه إضطرَّهم إلى المرور عبر الصالة، مسبباً حرجاً لهم و إزعاجاً للضيوف. أما في الطابق الأول فقد اكتشفوا سريعاً أن أبواب غرف النوم المؤدية مباشرة إلى صالة المعيشة جعلت من انتقال الصوت أمراً لا يُحتمل حتى وإن كانت الأبواب مغلقة، فمن كان يقرأ في غرفة نومه يسمع مجريات الفلم المعروض على تلفزيون الصالة كأنه فيها، ومن كان في الصالة تصله أصواتٌ من كل الغرف، فمن هنا مشاجرة عبر اتصال هاتفي ومن هناك موسيقى شبابية صاخبة. صاروا يشعرون أنهم أقرب إلى بعضهم البعض مما ينبغي فما يفعله أحدهم يزعج الآخرين و من يتحرك في البيت يعرض خصوصية غيره للانتهاك.

حينئذٍ عرفوا أن جودة الخريطة المعمارية ليست قائمة على توسعة غرفها الرئيسية ولا على التخلص من الممرات، بل في مدى خدمة التصميم لحياة عائلية مريحة و صحية، وأن ذلك يتطلب وعي بمهمة كل عنصر معماري. فالممرات من الممكن استخدامها لترتيب الغرف بالشكل المثالي ووضع كلٌ منها على المسافة المناسبة من الغرف الأخرى، كذلك من خصائصها إيجاد مسارات ثانوية لتحرك سكان البيت حتى يحتفظ كلٌ منهم بخصوصيته. الأهم هو تعلم المساكين أن لكل قرار معماري نتائج كثيرة، بعضها واضح وأكثرها لا يكشفها إلا الزمن.

قصة الأسقف المرتفعة


قالوا له، ذلك الذي يبني بيته: إرفع أسقف بيتك قدر ما استطعت ففي ارتفاع السقف جمال للدار لا يعوضه عرضٌ و لا طول، كما أن في فضاء الارتفاع حرية للبدن ونزهة للعين ومسبح للروح، ألم تعلم أن صحة البيت مبنية على اثنين: نور الشمس و برودة الهواء، ولا من صفة للبيت تستقبل النور وتنعش الهواء كما يفعل ارتفاع الأسقف، يا من يبني بيته ارفع أسقفك لتسعد.

راح ذلك المسكين و خياله يرقص على نغمات ما سمع، وقال للبنّاء: إرفع أسقف بيتي قدر ما استطعت فكما عرفت للتو أن في ارتفاع الأسقف بركة للمسكن وخير للساكن. إستجاب البناء لما أُمر وصار يرفع من الأسقف أقصى ما تتحمل الأعمدة، حتى عندما اكتمل البناء كان البيت هو الأعلى في الحي.

في يوم الانتقال إلى البيت الجديد تجمَّع أهل الحي عند الباب ليباركوا للمسكين وعائلته المسكينة اكتمال هذا البيت الشاهق وليمدحوا ذكائه في التصميم. ابتهج المسكين بانعجاب الناس فبرزت ابتسامته طوال عملية نقل الأثاث من الشاحنة إلى باب البيت. ثم عرض الناس عليه أن يساعدوه في حمل الأثاث إلى طوابق البيت الثلاثة طمعاً منهم بالتمتع بمنظر الأسقف المرتفعة.

هنا بدأت حقيقة الأسقف بالانكشاف: لم يطل الوقت حتى تعب الناس من حمل الأثاث صعوداً على عتبات الدرج العديدة: الأسقف المرتفعة تؤدي إلى أدراج عميقة كأنها جبال عاتية عند الصعود ووديان سحيقة عند النزول. أُرهق الناس من تسلقهم المستمر وعلى ظهورهم ثقل الأثاث فكانت أعينهم تسابق أقدامهم في عد العتبات اللانهائية، حتى أنهم نسوا أن يرفعوا نظراتهم للأسقف المرتفعة.

بعد بضعة أشهر من الاستقرار في البيت الجديد ظهرت مشاكل أخرى سببها ارتفاع الأسقف، فكلما انطفأت لمبة أو سالت قطرات ماء من فتحات التكييف اطُّر المسكين لجلب أطول سلم وجده في السوق، فأصبحت عملية تغيير لمبة رحلة مرعبة و خطرة: يصعد السلم مرتجفاً و جميع أفراد عائلته المسكينة يتشبثون بأرجل السلم لمنعه من التأرجح والسقوط. عند وصوله إلى الأعلى يضطر إلى رفع كلتا يديه للفك و التركيب فيشعر أنه سيهوي إلى نهايته في أي لحظة، يحاول جهده منع عينيه من اكتشاف بعده عن الأرض و يلهي نفسه بهمسِ ما يتذكر من الآيات والأدعية.

في أول ليالي شهر رمضان لذلك العام فكر المسكين أن يصعد إلى السطح ليرى ما إذا كان ارتفاع البيت سيمكنه من رؤية الهلال. لهذه المهمة قرر أن يدعوا بعض جيرانه ذوي الخبرة، فكانوا خمسة عنما صعدوا السطح ساعةً قبل الغروب. سرعان ما وصلوا انبهروا جميعهم بجمال منظر الشمس المحترقة على نار الأفق و السماء المشتعلة حُمْرة و صُفْرة. بعد لحظة من التأمل الهادئ لاحظوا أنهم لم يكونوا وحدهم المنعجبون بذلك المنظر الخلاب، فالطيور كانت على امتداد الدرابزين وأنابيب المياه وآلات التكييف، بل و كان السطح مليء بالريش المبعثر والأعشاش المهجورة والبيض المكسور وأشياء أخرى! وقتها عرف المسكين أن الطيور تحب أن تقيم بيوتها على الأبنية المرتفعة، وأن لكل قرار معماري نتائج كثيرة، بعضها واضح وأكثرها لا يكشفها إلا الزمن.