Published Book - The Labyrinth of Rooms: An Architectural Allegory





I recently published a book with the publisher ORO Editions. You can purchase the book from the publisher's website, Amazon.com, and other places where fine books are sold. Here is a short description of the book: 

The Labyrinth of Rooms is a story about how the shape of architecture can change the way we think, and how the shape of our thoughts can change the way we see architecture. Stated otherwise, the story conceives of the human life as a series of settings that stage the coevolution of mental space and physical space.

Human, the story’s protagonist, can be any one of us, and their journey from the first room to the last room is the journey of a lifetime: it has its ups and downs, moments of clarity and moments of confusion, but overall it bends toward greater knowledge and wisdom.  

Product photos taken by: @architectureinmind





معرض - غرفة بعد أخرى




توصيف المعرض
يُقدّم علي اليوسفي من خلال معرض "غرفة بعد أخرى" مجموعة من المشاريع الفنية التي تتناول موضوع "الغرفة". تتضمّن هذه المشاريع عدد من اللوحات بالألوان المائية والحبر، حيث تظهر في كلٍّ منها غرفة واحدة مرسومة على طريقة المخططات المعمارية. إضافة إلى ذلك، يُقدّم المعرض كتاب اليوسفي وشيك الإصدار، تحت عنوان "متاهة الغرف: حكاية رمزية معمارية" (2024، بالإنجليزية)، والذي يجمع ما بين رسومات فن "البِكسِل" ونصوص أدبية قصيرة.

ولكن لماذا الاهتمام بالغرف أصلاً؟ أحد الجوانب العجيبة في الغرف هي أننا نستطيع تعريفها بطريقتين متناقضتين: أولاً، أنْ نعرّفها من خلال عناصرها المادية مثل الجدران والأرضيات والأسقف، وثانياً أنْ نعرّفها من خلال ما تُنتج من فضاءٍ داخليٍّ يمكن التواجد فيه. وبذلك يكون تعريف الغرفة بين ما هو صلب وثابت وما هو متحرك ومؤقت (أي، أفعالنا التي نمارسها في فضاء الغرفة). تعالج الأعمال الفنية في المعرض هذه الامكانية المزدوجة: تختلف كلّ غرفة عن سواها من خلال شكلها ولونها، وهذا الاختلاف في المظهر يشير إلى اختلافٍ في الاستخدام أيضاً، إلا أنّ هذا الاختلاف في الاستخدام (أو، ماذا يحصل داخل كلّ غرفة؟) متروكٌ لخيال الرائي. أهو مولد؟ أم سمر؟ أم شعيرة؟ أم مشاجرة؟ أم رحيل؟

يُعتبر "غرفة بعد أخرى" المعرض الفردي الأول لليوسفي، ويأتي بعد المعرض المشترك لبرنامج إقامة الفنانين "سَدي 2022". وكما في أعماله السابقة، فإنّ الأعمال المعروضة هنا مقسّمة إلى مجموعات متمايزة، تكون لكلٍّ منها قوانينها الخاصة في التشكيل والتلوين، حيث يتمّ التحكّم بالاختلافات بين الأعمال الفنية في المجموعة الواحدة فتكون متغيّراتها قليلة العدد ومحدودة الأثر. الهدف من ذلك هو إنشاء علاقة قوية بين أعمال المجموعة الواحدة، فيضاف إلى الفاعلية الفردية لكلّ عمل أخرى جماعية هي نتيجة الترابط الوثيق بين الأعمال.

مكان المعرض: ستوديوهات الصفاة (safatstudios@)
التقط هذه الصور: ساموس (architectureinmind@)
















The Logic of Emerald | منطق الزمرد



حبر على الورق، حجم (A1) للأولى و(A3) للبقية
ink on paper, A1 size for the first and A3 for the rest






مراجعة معرض — فريد عبدال: الريشة والقافية، أشعار في الخط


عندما تقعُ الفرشاة المُبتلّة بالحبر على الورقة البيضاء، ينزل إليها مَلَكٌ من السماء ويخيِّرها بين أمرين: الشكل أم المعنى؟ لكل مَلَكٍ لغته الخاصة بالطبع، فيمكن لِنورانِيٍّ ثاني أنْ يختار لَفظين آخرين، فيقول للفرشاة: العين أم العقل، أيّهما تختارين؟ ومَلَكٌ ثالثٌ يقول: يا فرشاة، أتريدين السطح الظاهر أم العمق الغائر؟ هكذا هي الملائكة، ليس لاختلاف كلماتهم نهاية، ولكنْ تظلّ الغاية من ورائها واحدة لا تتغيّر: على الفرشاة أنْ تختار بين أنْ ترسم الأشكال البديعة الواضحة التي تُمَتِّع العين، وبين أنْ تصيغ المعاني التي تحتاج من العقل التمعُّن والتفكيك.
هي لحظة أبدية تلك التي تلامس فيها أول شعرة من رأس الفرشاة الورقة البيضاء، والملائكة لا تجزع من الانتظار، وفي كلّ مرة يقف المَلَك ساكناً حتى يسمع جواب الفرشاة، ليسمح لها بعد ذلك بأنْ تبدأ انزلاقها على سطح الورقة المتعطشة للحبر.
الحقيقة هي أنّ في سؤال المَلَك خُدعة، فما يهمّه ليس اختيار الفرشاة بين هذا وذاك، بل رضوخها لفكرة الاختيار أصلاً، فإنْ اختارت الشكل وحده يظل المَلَك مطمئِناً ويغادرها لتفعل ما تريده على الورقة، وإنْ اختارت المعنى وحده يفعل الشيء نفسه، لأنّه ليس في أحدِ الاختيارين ما يُقلِق. إذن ما الذي يخشاه هذا النورانيّ؟ هو يخشى تلك الحالات النادرة التي يطول فيها صمت الفرشاة، يطول تفكيرها في مدى وجوب الاختيار أساساً، وتذهب بخيالها لهندسة أجوبة غير التي سمح بها المَلَك، ثم تقول: الاثنين معاً، أريد الشكل والمعنى.
حينها سيعرف المَلَك أنّ الفرشاة اختارت أنْ تتجلّى، وأنْ تجعل من سطح الورقة نافذة تصعد من خلالها إلى العالَم الذي جاء منه المَلَك، وأنْ يكون حوار خطوطها لا مع العين أو العقل بل مع الروح. سيعرف المَلَك حينها أنّه لن يستطيع مغادرة الفرشاة حتى تنهي عملها، ليتأكد أنّها لم تتعدَّ في اختراقها للحدود الدنيوية كلّ الحدود، وأنّه ما زال هناك ما يستر ما يجب أنْ يظلّ مستوراً. سيقول المَلَك في نفسه: هذه فرشاة متهوِّرة، وهذه ورقة خطِرة، فقد بالغتْ في اقترابها من الحقيقة.
أردت أنْ أعرض في هذه المقدمة — بشكلٍ مجازيّ — أهم الأفكار التي طرأت علَيّ خلال زيارتي لمعرض الفنان التشكيلي فريد عبدال في "كاب" (منصة الفن المعاصر)، تحت عنوان "الريشة والقافية، أشعار في الخط". نقطة الانطلاق لأعمال هذا المعرض هي الخط الذي يُكَوِّن الحرف العربي، ويبدو أنّ الفنان سعى لاكتشاف أكبر عددٍ من طُرُق رسم هذا الخط، بالإضافة إلى تسخيره لتأدية أكبر عددٍ من المهام: فهو هنا عريض وواضح وجلي وهناك رفيع ومتشابك ومبهم، كما أنّ فيه روح الخطوط العربية الأصيلة في حين وفي حينٍ آخر يكون قد استعار روح أبجديات آسيا الشرقية، أو أنه دمج بين تلك الروحين ليبتكر نمطاً جديداً، وضِفْ إلى ذلك تبدُّل مصدر الكلمات التي يرسمها الخط فهي تارة آيات قرآنية (مثل "وثيابك فطهّر" و"فكذبَتْ وهو من الصادقين") وتارة تكون كلمات منفردة لها طابع إيجابي (مثل "السلام" و"التقوى") وتارة تكون ذات طابع سياسي وتحفيزي (مثل "فلسطين" و"المواجهة") وفي تاراتٍ أخرى أشياء أخرى يصعب حصرها هنا، بل ربما يكون الدافع من وراء تنوّعها الكبير هو تفادي إمكانية الحصر السريع. نرى هنا الخط الطامح إلى التمدّد والاتّساع، لا في شكله فقط، بل في طبيعته أيضاً.
سأحاول شرح هذه الأفكار بطريقة أدقّ من خلال تحليل لوحتين من المعرض:




لوحة بالألوان المائية والحبر على الورق، بعنوان "وثيابك فطهِّر"
بالمقارنة مع غيرها في المعرض تميل هذه اللوحة إلى البساطة، ولذلك فمن المفيد التدقيق في عناصر بنائها لكي نفهم الاستخدامات المختلفة للخط الموجودة في أعمال المعرض كافّة. نرى هنا ثلاثة أنواع من الكتابة وهي كلّها اقتباسات من سورة "المُدَّثر". النوع الأول والأكبر مُتمثِّلٌ في كلمة "فطهِّر"، التي كُتبت فاؤها مفصولة وباللون البني البرتقالي، وتحتها بقية الكلمة باللون الأسود، إلا أنّ عصا حرف الطاء في طلوعها العَمودي تخترق الأفق الذي تمدَّه الفاء، وعند هذا التقاطع يسيل الحبر الأسود في الجسد البرتقالي. لا أعرف لماذا تخيّلتُ الفاء فضاءً والطاء طعناً وكلاهما معاً مثل ظاهرة كونية: ارتطام مجرّتين في حربٍ عملاقة، مثلاً.
أما النوع الثاني من الكتابة فهو مُتمثِّل في كلمة "وثيابك" وهي أصغر حجماً من النوع الأول، مكتوبة باللون الأحمر في الزاوية السفلية اليمنى. أكثر ما جذب انتباهي في هذه الكلمة هي طريقة رسم حرف الواو الذي تمّ عكسه، فأصبح ميلانه في أول الكلمة يجاري ميلان حرف الكاف في آخرها، وبذلك أعطى الكلمة توازنَ شكل الهَرَم: عريضاً وثابتاً في الأسفل، ومتقلصاً وطالعاً في الوسط، ومدبّباً في الأعلى. يعطي هذا التكوين المتناظر للكلمة طابع الأيقونة، وبذلك يتردّد الناظر إليها بين قراءتها ككلمة عربية (من اليمين إلى اليسار، حرفاً تلو آخر) وبين اعتبارها صورةً كاملةً يجب فهمها بصفتها شكلٍ موَّحدٍ (من الخارج إلى الداخل، أو من الطابع العام إلى التفصيل الصغير).
أما النوع الثالث فهو مُتمثِّلٌ في خطٍ بنفسجيٍّ رفيعٍ عليه تشكيلٌ أخضرٌ، هي الآيات 11 إلى 25 من سورة "المُدَّثر". يلفّ هذا الخط ليصنع من تلك الآيات إطاراً مربّعاً يحصر في حيّزه كلمة "فطهِّر". ما تحدّد رؤيتنا لهذا الخط — بين كونه شكلاً هندسياً أو عباراتٌ قرآنية ذات معانٍ ومشاعر — هي المسافة التي نقف عليها من اللوحة. عندما نبتعد نراه شكلاً وعندما نقترب نراه حروفاً وكلمات ومعاني. ولكن هناك مفارقة، فعندما نقترب بما فيه الكفاية لقراءة هذه الآيات سنكون قد اقتربنا إلى درجة فقدان القدرة على قراءة النوع الأول من الكتابة (أي كلمة "فَطَهِّر") لأنّ خطّها العريض يتطلّب أنْ نبتعد عن اللوحة عدة خطوات لنقرأه بشكلٍ مريح، وعندما نُسرف في الاقتراب تتحوّل حروفه المقروءة إلى مسارات انسيابية تجريدية.
بهذا التباين تصبح اللوحة تجسيداً لفكرة ترنّح العمل الفني بين الشكل والمعنى، فعلى كلّ مسافة نقف عليها تتحول بعض الأشكال إلى رموز وفي نفس الوقت تتحول بعض الرموز إلى أشكال، لتصبح حركة الناظر ضرورة لا بدّ منها إذا أراد الإحاطة بكلِّ جوانب اللوحة: اقتراباً وابتعاداً، تفصيلاً وتعميماً.




لوحة بالألوان المائية والحبر على الورق، بعنوان "طلاسم المصباح"
تتميّز هذه اللوحة عن سواها بأنها الوحيدة التي يظهر فيها رجلٌ مرسوم، وليس مكتوباً، أي إن أكثر خطوطها رُسمت لتحديد ملامح الرجل فقط، وذلك بخلاف الوجوه الأخرى التي نراها في أعمال المعرض (مثل لوحتي "وجهان في واحد" و"المواجهة") حيث إنّ خطوط الوجه تكون خطوط الأحرف العربية ذاتها. ونتيجة لهذه الميزة، فإنني شعرت بأنّ هذا الرجل الظاهر في اللوحة — وسيم الطلة، وديع النظرة، باسم الفاه، ذو الهالة الذهبية حول رأسه — لربّما يكون حامل المفتاح لفهم باقي أعمال المعرض. شعرت بأنّه ليس مجرّد وجهٍ آخر، بل صاحب الشأن هنا وحافظ الأسرار ووِجهة الزائر المحتار إذا ما هام في المعرض ولم يفهم شيئاً. أكثر ما يرمز إلى هذا الدور الجوهري للرجل هو أنّه يريح ساعده على إطار اللوحة وقد أرخى أصابعه المسالمة إلى ما هو خارجها، كأنّه يبيّن لنا أنّه جزء من العمل الفني من ناحية وجزء من عالمنا الخارجي من ناحية أخرى: هو العابر بين الضِّفَّتين والمُترجم بين المَنْطِقَين.
للكلمات ثلاثة مواضع في هذه اللوحة. الموضع الأول هو على جانبي الرجل، كلمات منفصلة باللون الأحمر يجب قراءتها أفقياً مثل الكتابة الشرق آسيوية، وهي تقتبس من القرآن هذه العبارة من سورة "النور": "مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ". أما الموضع الثاني فهو في أسفل اللوحة حيث يتداخل سطران قد كُتبا بالأسود وزُيّنا بالذهبي، هو اقتباس من أحد أشعار ابن العارض الذي يقول أول أبياته: "أوَميضُ بَرْقٍ بالأُبَيْرِقِ لاَحا / أم في رُبَى نجد أرى مِصباحا". وأما الموضع الثالث — والأهم — فهي الكلمات المنقوشة على الرجل نفسه، إما على درعه الملوّن ومن بينها حروف القرآن المقطعة (مثل "ألم" و"كهيعص") وإما كالموجودة على كتفه الأيسر وهي أبيات منسوبة إلى الإمام علي، مطلعها: "لا تَظلِمَنَّ إِذا ما كُنتَ مُقتَدِراً / فَالظُلمُ مَرتَعُهُ يُفضي إِلى النَدَمِ".
بخلاف ما نراه في بقية اللوحات حيث تكون الأحرف هي اللبِنات التي تُصنع منها عناصر الأشكال الأساسية، نلاحظ هنا أنّ الأحرف أصبحت أدوات يوظّفها هذا المحارب / الشاعر / النبي لِيَحْرُزَ بها روحه ويحثّها على ملازمة طريق التجلّي والارتقاء، طريق النور والبصيرة. هذه الكلمات التي اكتساها وطوّق بها جسده وجعلها ترسم إطار وجوده هي وسيلته ليعْبُر من حالة إلى حالة أرقى: من الصورة إلى الواقع، من الرمز إلى المرموز، ومن الأرض إلى السماء. ولأنّ ملامحه مرسومة وليست مكتوبة، فهو أقرب ما يمكن أنْ يكون إلينا نحن، زوار المعرض، فهو صنيعة الحبر ونحن صنيعة الطين — أبناء المادة الطيِّعة — الكلمات مصباحنا الألمع في ظُلمة هذا العالم، أفنجعل هذا القدّيس قُدْوَتنا في طريقة انتفاعه من هذه الكلمات؟


خرجتُ من المعرض وأنا أشعر بشيء ما، إلا أنني وجدت صعوبةً في التعبير عن ماهيّته. فرغم أنّ للكلمات التي فكَكْتُ حروفها خلال مشيتي بين اللوحات معانيها الخاصة — الواضح منها والمبهم — إني أشكّ في أنّ تلك المعاني الضيّقة هي الرسالة الأهمّ للمعرض. لربّما تكون هذه الكلمات مجرّد إشارات أولية، مثل الشَرَر الذي يشعل النار العظيمة، تدفعنا إلى بدء رحلاتنا الشخصية للبحث عما نتوق إليه من معنى وحقيقة. لربّما تكون رسالة هذه اللوحات هي — رغم أنّنا نعيش في زمن الانجذاب للمادة والانبهار بالتقنية — أنّنا ما زلنا تلك الأرواح التي لا تجد الهدوء ولا تستلذ الحياة ولا تتحصَّل الرضى إلا من خلال الإجابة على الأسئلة الفلسفية الكبرى. لربّما تكون توصية اللوحات لنا هي أنْ نستفيق من سباتنا وننتبه، فهناك ما هو أكبر وأغنى، ما هو أعمق وأوقع، وما هو أكثر استحقاقاً لاهتمامنا مما يملأُ حياتنا اليومية من تفاهات. لربّما تقول اللوحات لنا: إذا كان هذا ما يمكن أنْ يُكتب ويُقرأ ويُفهم، فأين هي المعاني الحقّة التي لا يمكن أنْ تُجسَّد بالحروف وبالخطوط؟

First Worlds | عَوالِم أُولى


أقلام حبر وشينية على الورق، الحجم A4
pens and markers on paper, size A4










مراجعة معرض — اليمامة راشد: للأرض أنْ تكون ميتة كما لها أنْ تكون حية


ركبنا القارب الصغير متّجهين إلى جزيرة فيلكا، أكثرنا لم يكن يعرف أكثرنا، ولم نعرف أنّ القارب الذي كان للتو يخرج من المرسى سيواصل بعد قليل عراكه الأزلي مع الأمواج، حيث لا يخسر البحر أبداً ولا يخسر المركب إلا نادراً والخاسر دائماً هو الراكب المسكين: بطنه يتقلّب خائفاً وعقله يتصوّر أسوأ الاحتمالات.


ولكن دعونا من هذا، ولنسأل لماذا كنا متّجهين إلى فيلكا أصلاً؟ أكنّا من محبّي المغامرات نريد أنْ نستكشف بيوت فيلكا المهجورة منذ غزو 1990؟ أم كنا من المهووسين بالتاريخ وأمجادنا الضائعة بين كثبانه نريد أنْ نرى الآثار المتراكمة في الجزيرة منذ أيام الإسكندر المقدوني؟ أم كنا من السحرة والمشعوذين نريد أنْ نعرض مذكرة تفاهم على أبرز الجن القاطنين في الجزيرة منذ أنْ طُرد سيّدنا آدم من الجنة؟
الجواب أكثر غرابة: كنا ذاهبين لزيارة معرض الفنانة التشكيلية اليمامة راشد، بعنوان "للأرض أنْ تكون ميتة كما لها أنْ تكون حية" المقام في دار فِكَر (مركز فيلكا للفن والمعرفة) بالتعاون مع مجموعة "مَثْقَف" وغاليري "هُنَّ". أنْ تركب القارب وتعبر البحار وترسي على الشاطئ الغريب وتغزو مدينة الأشباح في سبيل الوصول إلى المعرض القاصي وملاقاة عينيك لتلك اللوحات التشكيلية، يا لها من فكرة رومانسية وعبقرية! كيف كان لي أن أقاوم تلك الفكرة المجنونة؟ لم أقاوم، وبعد نصف ساعة من القلق قضيتها على القارب الصغير وصلنا إلى فيلكا وبدأنا نمشي.



بعض سيرنا كان على الشاطئ وبعضه الآخر بين البيوت المهجورة (واللامهجورة أيضاً). لم نتوقف إلا للتبضّع من بقالةٍ وجدناها في أحد الشوارع، ثم أكملنا طريقنا إلى دار فِكر. هو بيت قديم مكسيّ بطابوق الجيري تمّ ترميمه فصار يجمع بين بساطة بيوت الماضي واللمسات الفنية التي تحظى بها تصاميم الحاضر. أمام البيت حديقة كثيفة مررنا فيها حتى وصلنا إلى باب البيت الذي يُفرغ إلى حوش واسع، فيه الزرع والماء والمقاعد التي اشتاقت إليها أجسادنا المنهكة بعد رحلة السفر، ولأنّها دار كرمٍ وحفاوة وجدنا كؤوس الشاي والقهوة تدور بين أيدينا.


لم تطل الاستراحة تلك، فَنَعيم الحوش لم يُنسِنا ما أتينا لأجله وهو داخل البيت. صعدنا العتبات وفتحنا الباب، وكان المعرض بانتظارنا: عدد من اللوحات الزيتية والمائية بعضها بحجم كفّ اليد وبعضها بحجم الغرفة، وجدناها معلقة على الحوائط ومتدلية من السقف ومرصوصة على الطاولة ومفروشة على الأرض. شعرت حينها أنني في وسط جزيرة فيلكا، في مركز روحها، وبدأت أتفحّص اللوحات الواحدة بعد الأخرى.


لوحة بالألوان الزيتية بعنوان "هل ستلقاني تحت شواطئك؟"
نرى هنا كائنين ملتويين على بعضهما، جسداهما أملسان ومدوّران، ربما مثل الأفاعي وربما مثل الدلافين. يبدو كأنّ أحدهما جاء من الماء فهو مغطّى بالطحالب المبللة، والآخر جاء من اليابسة فجسده مغطّى بالبقع الصفراء والبرتقالية كأنها رمال الشاطئ. أياديهما الأربعة تُكمل فِعل الجسدين المتلاصقين فهي مشتبكة في احتضانٍ متبادل. أما الرأسان فهما أبيضان وكرويّان وليس بهما إلا عين كبيرة، عين واحدة لكل رأس، كلٌ منهما ينظر في الآخر حتى يكون التلاحم بينهما ليس بما يشعر به الجسد فقط، بل بما يملأ خيال العقل أيضاً.
هذه هي صورة الاندماج الكامل بين جسدين وعقلين وروحين، وهي صورة لاندماج الأرض بالبحر، الحجر بالماء، الجفاف بالرطوبة، عالم الذرّات بعالم القطرات، النقيض بالنقيض، ولذلك فأنا لم أرَ في هذا الاندماج سعادة، ولم أرَ فيه أيّ لذة، فالجسد المائي تبكي طحالبه دموعها السوداء، والجسد البرّي تنزف فيه تقرّحات ربما كانت نتيجة زحفه على أحد شواطئ فيلكا الصخرية. نعم، وصل كلّ جسدٍ عاشقٍ إلى ما كان يتوق إليه وتلاشت الوحدة منهما وصار الاتّحاد بينهما، ولكن بأيّ ثمن؟
هذان جسدان حاربا طبيعة الأشياء واخترقا الفواصل بين المناطق وقرّرا أنّ لحظةً واحدةً من الاندماج أفضل من سنينٍ من الفرقة، ولو كان أحدهما شاعراً لربما قال: إنّ في لحظة الاندماج دهراً من الزمن وفي سنين الفرقة ما هو أقصر من لمح البصر وأفقر. هي لحظة، وبعدها الفناء.


لوحة بالألوان المائية والباستيل بعنوان "أنا الدائرة في سمائك وملاكٌ طائر"
نرى في هذه اللوحة كائنين آخرين، يشبهان الأوّلَيين برأسيهما ذي العين الواحدة، ولكنّ الجسدين اختلفا: بينما كان الجسدان الأوّليّان أقرب إلى عالم المادة الخاضعة لقوانين الجاذبية، نجد هنا جسدين سابحين بِحُرية في فضاء أسود، لهما أجنحة زرقاء تضفي عليهما شعور الكائنات الأثيرية. أهما ملاكان يلعبان، أم إلهان قديمان، أم روحان تخلّصا من ثقل المادة؟
علاقة الجسد بالمادة تبدو فكرة رئيسية في هذا العمل، خاصة وأنّ الجسدين البرتقاليّين لهما بشرة شفافة تظهر من تحتها أعضاء متناثرة حمراء، لا يربط بين الأعضاء منطق البيولوجيا الذي نعرفه بل تبدو كأنّها تتنقّل كما تشاء بين الرأس والقدم وتبني علاقات متغيّرة بين بعضها كما تشاء. هنا يجب أنْ نسأل: أهذه أجساد أم فكرة الأجساد؟ أههما يطيران في عالمنا هذا أم عالم آخر؟ ولو كانا فكرتين أو روحين أو ما يشبه ذلك، وكانا فعلاً من عالم آخر، فلماذا يبقيان على شكل جسد الإنسان بتقسيمات أجزائه وأعضائه؟ لماذا أصرّا على البقاء في إطار الآدمية؟ ما الذي أوقف عملية التحرّر من المادة ومنع هذين الأثيريّين من أنْ يصبحا ما هو نقيض المادة ونقيض الجسد: نبضٌ في فراغ أو ضوءٌ في ظلام أو حِسٌ في الأزل؟




مجموعة لوحات بالألوان المائية بعنوان "أنا أجمع حُلميَ المعشوق"
في هذه اللوحات الصغيرة وسريعة التنفيذ نرى الجسد يتحوّل من شكل إلى شكل. في أحدها يأخذ الجسد شكل حيوان ذي ست أرجل يحمل على ظهره كومة من الصدف والفخار، ربما كان قد جمعها خلال جولاته حول جزيرة فيلكا. من حيث يجب أنْ يكون رأس هذا المخلوق البُنّي الداكن نرى جسداً آخر يخرج إلى العالم، كأنّه يولد، أو كأنه ثعبان يتخلص من جلده القديم، أو كأنّها عملية تطور لكائن بدائي إلى آخر أكثر رقياً وأقرب إلى الإنسان.
في لوحة أخرى نرى شجرة ذات أوراق متناثرة يحوم حولها عدد من الطيور السوداء. المثير هو أنّ في أسفل الشجرة، على جانبي جذعها البُنّي، نرى أنّ الأوراق بدأت بالتجمّع والتكاثف والتحوّل إلى مخلوقين لهما أجساد وأيادي وأعين. وحتى في هذه اللحظة الأولية في عملية التحوّل نرى أنّ المخلوقين بدآ بالانجذاب إلى بعضهما البعض، فقد خرجا من صلب الشجرة ذاتها ويريدان بعد أنْ يصبحا جسدين منفصلين أنْ يعاودا الاندماج، كأنّ الهدف من وراء الافتراق أصلاً هو التمتّع بلحظة التقارب من الجديد.
وفي لوحة ثالثة نرى جسداً متكوّماً على نفسه، أجزاؤه مُنثنية على بعضها، بل وربما تكون متداخلة. كلّ ما نستطيع تمييزه هو وجود رجلين قد بَرَكَ عليهما الجسد. نرى فوق هذا المخلوق بقعاً زرقاء كأنها قطرات ماء متدلية في الهواء وقد رتّبت نفسها بشكلٍ هندسي. العلاقة بين الجسد والماء غير واضحة، فما سبب وجود القطرات فوق الجسد أو ما الذي أقنع الجسد بأنْ يبرك تحت القطرات؟ أما الواضح بالنسبة لي هو أنّ شيئاً ما سيحصل بينهما، ربما عملية تحوّل أخرى يكون الماء وقودها الذي يصنع من هذا الجسد عديم الهوية ما هو أشدّ وأجمل وأنبل.
في هذه اللوحات، الأصل في جسد هو التحوّل لا الثبات، فما يُعَرِّف أحد الأجساد ويُميّزه عن غيره هي ليست الصورة التي يكون عليها في لحظة ما، بل منطق التحوّل الذي يتبنّاه، فذلك المنطق هو الذي يحمل في شفرته كلّ حالات الجسد الماضية والحاضرة واللاحقة.


مجموعة لوحات بالألوان الزيتية بعنوان "للحصى أنْ تغنّي أيضاً"
هذا العمل الفني مُكوَّنٌ من اثني عشرة لوحة عُلّقت بشكل متراص لتُغلّف ثلاثة حوائط من أحد غرف دار فِكَر. يُقرأ العمل من اليسار إلى اليمين ويبيّن عدداً من الأجساد الرمادية الملساء المنطوية على بعضها، كأنها مخلوقات فضائية تمارس رقصة غريبة في خواءٍ مظلم. يظلّ هذا الوصف صحيحاً حتى نصل إلى اللوحة الأخرى (في أقصى اليسار، والتي لا تظهر في الصورة الملحقة أعلاه) حيث نرى أن أحد هذه المخلوقات قد تحوّل إلى جسد أنثى آدمية: الجلد تحوّل من الرمادي إلى الوردي، وقد نبتت في الجسد تضاريس وتفاصيل تدلّ على الأنوثة والآدمية.
ولكن ما جذب انتباهي هو الجزء الأول من اللوحة، وليست النهاية الوردية للقصة. هناك ما هو مُستفزٌّ في تلاصق كلّ هذه الأجساد وتكدّس لحومها بهذا الشكل، كأنّ حاسة اللمس قد تغوّلت على باقي الحواس وصارت كلّ ما يمتلكه الجسد، وأقول هذا رغم وجود العيون الأحادية المتناثرة في اللوحات فهي أضعف من أنْ تفرض حاسة البصر كمنافس للتلامس بين الجلد والجلد. في العالم الذي يُصوّره هذا العمل الفني ليس لدى الجسد الحيّ إلا أن يدفع بنفسه حتى يلامس جسداً آخر، يشعر حينها بما يمكن أنْ يشعر به، ثم ينطلق ليتلاحم مع جسد آخر، وهكذا هي الحياة عندهم: غرقٌ ثقيلٌ في بحرٍ من الجلود المتلاطمة.
أشعر في هذا العالم بما ينقض العالم الذي أميل إليه، وهو عالم العقل والأفكار المجردة، وكم يستفزّني هذا النقيض، بل ويشعرني بشيء من الخوف. لا مجال للتفكّر والتفلسف بين أكوام تلك الأجساد، لا مكان للعزلة والاعتكاف، لا معنى للاختباء والخصوصية، فليس هناك إلا خيار واحد: الاقتراب والمواجهة والاحتكاك.


عدنا إلى الشاطئ مشياً قبل المغيب، وقد سمحت لنا هذه التجربة الغريبة بأنْ نتعرّف على بعضنا البعض، فلم نعد غرباء نحن الذين عبرنا البحار معاً لزيارة هذا المعرض. لمحنا قاربنا كنقطة على الأفق أخذت تكبر حتى وصلت إلينا. ركبنا القارب وانطلق بنا، وكان الماء ما زال مرتبكاً لسبب ما، والقارب ما زال يركب الأمواج برعونة مُقلِقة. ولكننا وصلنا بسلامٍ رغم ذلك، وذهب كلٌ منا في طريقه، ولم يظلّ ما يجمعنا إلا رؤيتنا المشتركة لمخلوقات اليمامة راشد، والتي ما زالت تحتفظ بأكثر أسرارها.