First Worlds | عَوالِم أُولى


أقلام حبر وشينية على الورق، الحجم A4
pens and markers on paper, size A4










مراجعة معرض — اليمامة راشد: للأرض أنْ تكون ميتة كما لها أنْ تكون حية


ركبنا القارب الصغير متّجهين إلى جزيرة فيلكا، أكثرنا لم يكن يعرف أكثرنا، ولم نعرف أنّ القارب الذي كان للتو يخرج من المرسى سيواصل بعد قليل عراكه الأزلي مع الأمواج، حيث لا يخسر البحر أبداً ولا يخسر المركب إلا نادراً والخاسر دائماً هو الراكب المسكين: بطنه يتقلّب خائفاً وعقله يتصوّر أسوأ الاحتمالات.


ولكن دعونا من هذا، ولنسأل لماذا كنا متّجهين إلى فيلكا أصلاً؟ أكنّا من محبّي المغامرات نريد أنْ نستكشف بيوت فيلكا المهجورة منذ غزو 1990؟ أم كنا من المهووسين بالتاريخ وأمجادنا الضائعة بين كثبانه نريد أنْ نرى الآثار المتراكمة في الجزيرة منذ أيام الإسكندر المقدوني؟ أم كنا من السحرة والمشعوذين نريد أنْ نعرض مذكرة تفاهم على أبرز الجن القاطنين في الجزيرة منذ أنْ طُرد سيّدنا آدم من الجنة؟
الجواب أكثر غرابة: كنا ذاهبين لزيارة معرض الفنانة التشكيلية اليمامة راشد، بعنوان "للأرض أنْ تكون ميتة كما لها أنْ تكون حية" المقام في دار فِكَر (مركز فيلكا للفن والمعرفة) بالتعاون مع مجموعة "مَثْقَف" وغاليري "هُنَّ". أنْ تركب القارب وتعبر البحار وترسي على الشاطئ الغريب وتغزو مدينة الأشباح في سبيل الوصول إلى المعرض القاصي وملاقاة عينيك لتلك اللوحات التشكيلية، يا لها من فكرة رومانسية وعبقرية! كيف كان لي أن أقاوم تلك الفكرة المجنونة؟ لم أقاوم، وبعد نصف ساعة من القلق قضيتها على القارب الصغير وصلنا إلى فيلكا وبدأنا نمشي.



بعض سيرنا كان على الشاطئ وبعضه الآخر بين البيوت المهجورة (واللامهجورة أيضاً). لم نتوقف إلا للتبضّع من بقالةٍ وجدناها في أحد الشوارع، ثم أكملنا طريقنا إلى دار فِكر. هو بيت قديم مكسيّ بطابوق الجيري تمّ ترميمه فصار يجمع بين بساطة بيوت الماضي واللمسات الفنية التي تحظى بها تصاميم الحاضر. أمام البيت حديقة كثيفة مررنا فيها حتى وصلنا إلى باب البيت الذي يُفرغ إلى حوش واسع، فيه الزرع والماء والمقاعد التي اشتاقت إليها أجسادنا المنهكة بعد رحلة السفر، ولأنّها دار كرمٍ وحفاوة وجدنا كؤوس الشاي والقهوة تدور بين أيدينا.


لم تطل الاستراحة تلك، فَنَعيم الحوش لم يُنسِنا ما أتينا لأجله وهو داخل البيت. صعدنا العتبات وفتحنا الباب، وكان المعرض بانتظارنا: عدد من اللوحات الزيتية والمائية بعضها بحجم كفّ اليد وبعضها بحجم الغرفة، وجدناها معلقة على الحوائط ومتدلية من السقف ومرصوصة على الطاولة ومفروشة على الأرض. شعرت حينها أنني في وسط جزيرة فيلكا، في مركز روحها، وبدأت أتفحّص اللوحات الواحدة بعد الأخرى.


لوحة بالألوان الزيتية بعنوان "هل ستلقاني تحت شواطئك؟"
نرى هنا كائنين ملتويين على بعضهما، جسداهما أملسان ومدوّران، ربما مثل الأفاعي وربما مثل الدلافين. يبدو كأنّ أحدهما جاء من الماء فهو مغطّى بالطحالب المبللة، والآخر جاء من اليابسة فجسده مغطّى بالبقع الصفراء والبرتقالية كأنها رمال الشاطئ. أياديهما الأربعة تُكمل فِعل الجسدين المتلاصقين فهي مشتبكة في احتضانٍ متبادل. أما الرأسان فهما أبيضان وكرويّان وليس بهما إلا عين كبيرة، عين واحدة لكل رأس، كلٌ منهما ينظر في الآخر حتى يكون التلاحم بينهما ليس بما يشعر به الجسد فقط، بل بما يملأ خيال العقل أيضاً.
هذه هي صورة الاندماج الكامل بين جسدين وعقلين وروحين، وهي صورة لاندماج الأرض بالبحر، الحجر بالماء، الجفاف بالرطوبة، عالم الذرّات بعالم القطرات، النقيض بالنقيض، ولذلك فأنا لم أرَ في هذا الاندماج سعادة، ولم أرَ فيه أيّ لذة، فالجسد المائي تبكي طحالبه دموعها السوداء، والجسد البرّي تنزف فيه تقرّحات ربما كانت نتيجة زحفه على أحد شواطئ فيلكا الصخرية. نعم، وصل كلّ جسدٍ عاشقٍ إلى ما كان يتوق إليه وتلاشت الوحدة منهما وصار الاتّحاد بينهما، ولكن بأيّ ثمن؟
هذان جسدان حاربا طبيعة الأشياء واخترقا الفواصل بين المناطق وقرّرا أنّ لحظةً واحدةً من الاندماج أفضل من سنينٍ من الفرقة، ولو كان أحدهما شاعراً لربما قال: إنّ في لحظة الاندماج دهراً من الزمن وفي سنين الفرقة ما هو أقصر من لمح البصر وأفقر. هي لحظة، وبعدها الفناء.


لوحة بالألوان المائية والباستيل بعنوان "أنا الدائرة في سمائك وملاكٌ طائر"
نرى في هذه اللوحة كائنين آخرين، يشبهان الأوّلَيين برأسيهما ذي العين الواحدة، ولكنّ الجسدين اختلفا: بينما كان الجسدان الأوّليّان أقرب إلى عالم المادة الخاضعة لقوانين الجاذبية، نجد هنا جسدين سابحين بِحُرية في فضاء أسود، لهما أجنحة زرقاء تضفي عليهما شعور الكائنات الأثيرية. أهما ملاكان يلعبان، أم إلهان قديمان، أم روحان تخلّصا من ثقل المادة؟
علاقة الجسد بالمادة تبدو فكرة رئيسية في هذا العمل، خاصة وأنّ الجسدين البرتقاليّين لهما بشرة شفافة تظهر من تحتها أعضاء متناثرة حمراء، لا يربط بين الأعضاء منطق البيولوجيا الذي نعرفه بل تبدو كأنّها تتنقّل كما تشاء بين الرأس والقدم وتبني علاقات متغيّرة بين بعضها كما تشاء. هنا يجب أنْ نسأل: أهذه أجساد أم فكرة الأجساد؟ أههما يطيران في عالمنا هذا أم عالم آخر؟ ولو كانا فكرتين أو روحين أو ما يشبه ذلك، وكانا فعلاً من عالم آخر، فلماذا يبقيان على شكل جسد الإنسان بتقسيمات أجزائه وأعضائه؟ لماذا أصرّا على البقاء في إطار الآدمية؟ ما الذي أوقف عملية التحرّر من المادة ومنع هذين الأثيريّين من أنْ يصبحا ما هو نقيض المادة ونقيض الجسد: نبضٌ في فراغ أو ضوءٌ في ظلام أو حِسٌ في الأزل؟




مجموعة لوحات بالألوان المائية بعنوان "أنا أجمع حُلميَ المعشوق"
في هذه اللوحات الصغيرة وسريعة التنفيذ نرى الجسد يتحوّل من شكل إلى شكل. في أحدها يأخذ الجسد شكل حيوان ذي ست أرجل يحمل على ظهره كومة من الصدف والفخار، ربما كان قد جمعها خلال جولاته حول جزيرة فيلكا. من حيث يجب أنْ يكون رأس هذا المخلوق البُنّي الداكن نرى جسداً آخر يخرج إلى العالم، كأنّه يولد، أو كأنه ثعبان يتخلص من جلده القديم، أو كأنّها عملية تطور لكائن بدائي إلى آخر أكثر رقياً وأقرب إلى الإنسان.
في لوحة أخرى نرى شجرة ذات أوراق متناثرة يحوم حولها عدد من الطيور السوداء. المثير هو أنّ في أسفل الشجرة، على جانبي جذعها البُنّي، نرى أنّ الأوراق بدأت بالتجمّع والتكاثف والتحوّل إلى مخلوقين لهما أجساد وأيادي وأعين. وحتى في هذه اللحظة الأولية في عملية التحوّل نرى أنّ المخلوقين بدآ بالانجذاب إلى بعضهما البعض، فقد خرجا من صلب الشجرة ذاتها ويريدان بعد أنْ يصبحا جسدين منفصلين أنْ يعاودا الاندماج، كأنّ الهدف من وراء الافتراق أصلاً هو التمتّع بلحظة التقارب من الجديد.
وفي لوحة ثالثة نرى جسداً متكوّماً على نفسه، أجزاؤه مُنثنية على بعضها، بل وربما تكون متداخلة. كلّ ما نستطيع تمييزه هو وجود رجلين قد بَرَكَ عليهما الجسد. نرى فوق هذا المخلوق بقعاً زرقاء كأنها قطرات ماء متدلية في الهواء وقد رتّبت نفسها بشكلٍ هندسي. العلاقة بين الجسد والماء غير واضحة، فما سبب وجود القطرات فوق الجسد أو ما الذي أقنع الجسد بأنْ يبرك تحت القطرات؟ أما الواضح بالنسبة لي هو أنّ شيئاً ما سيحصل بينهما، ربما عملية تحوّل أخرى يكون الماء وقودها الذي يصنع من هذا الجسد عديم الهوية ما هو أشدّ وأجمل وأنبل.
في هذه اللوحات، الأصل في جسد هو التحوّل لا الثبات، فما يُعَرِّف أحد الأجساد ويُميّزه عن غيره هي ليست الصورة التي يكون عليها في لحظة ما، بل منطق التحوّل الذي يتبنّاه، فذلك المنطق هو الذي يحمل في شفرته كلّ حالات الجسد الماضية والحاضرة واللاحقة.


مجموعة لوحات بالألوان الزيتية بعنوان "للحصى أنْ تغنّي أيضاً"
هذا العمل الفني مُكوَّنٌ من اثني عشرة لوحة عُلّقت بشكل متراص لتُغلّف ثلاثة حوائط من أحد غرف دار فِكَر. يُقرأ العمل من اليسار إلى اليمين ويبيّن عدداً من الأجساد الرمادية الملساء المنطوية على بعضها، كأنها مخلوقات فضائية تمارس رقصة غريبة في خواءٍ مظلم. يظلّ هذا الوصف صحيحاً حتى نصل إلى اللوحة الأخرى (في أقصى اليسار، والتي لا تظهر في الصورة الملحقة أعلاه) حيث نرى أن أحد هذه المخلوقات قد تحوّل إلى جسد أنثى آدمية: الجلد تحوّل من الرمادي إلى الوردي، وقد نبتت في الجسد تضاريس وتفاصيل تدلّ على الأنوثة والآدمية.
ولكن ما جذب انتباهي هو الجزء الأول من اللوحة، وليست النهاية الوردية للقصة. هناك ما هو مُستفزٌّ في تلاصق كلّ هذه الأجساد وتكدّس لحومها بهذا الشكل، كأنّ حاسة اللمس قد تغوّلت على باقي الحواس وصارت كلّ ما يمتلكه الجسد، وأقول هذا رغم وجود العيون الأحادية المتناثرة في اللوحات فهي أضعف من أنْ تفرض حاسة البصر كمنافس للتلامس بين الجلد والجلد. في العالم الذي يُصوّره هذا العمل الفني ليس لدى الجسد الحيّ إلا أن يدفع بنفسه حتى يلامس جسداً آخر، يشعر حينها بما يمكن أنْ يشعر به، ثم ينطلق ليتلاحم مع جسد آخر، وهكذا هي الحياة عندهم: غرقٌ ثقيلٌ في بحرٍ من الجلود المتلاطمة.
أشعر في هذا العالم بما ينقض العالم الذي أميل إليه، وهو عالم العقل والأفكار المجردة، وكم يستفزّني هذا النقيض، بل ويشعرني بشيء من الخوف. لا مجال للتفكّر والتفلسف بين أكوام تلك الأجساد، لا مكان للعزلة والاعتكاف، لا معنى للاختباء والخصوصية، فليس هناك إلا خيار واحد: الاقتراب والمواجهة والاحتكاك.


عدنا إلى الشاطئ مشياً قبل المغيب، وقد سمحت لنا هذه التجربة الغريبة بأنْ نتعرّف على بعضنا البعض، فلم نعد غرباء نحن الذين عبرنا البحار معاً لزيارة هذا المعرض. لمحنا قاربنا كنقطة على الأفق أخذت تكبر حتى وصلت إلينا. ركبنا القارب وانطلق بنا، وكان الماء ما زال مرتبكاً لسبب ما، والقارب ما زال يركب الأمواج برعونة مُقلِقة. ولكننا وصلنا بسلامٍ رغم ذلك، وذهب كلٌ منا في طريقه، ولم يظلّ ما يجمعنا إلا رؤيتنا المشتركة لمخلوقات اليمامة راشد، والتي ما زالت تحتفظ بأكثر أسرارها.

The Logic of Turquoise | منطق الفيروز


حبر على الورق، الحجم A3
ink on paper, size A3








Final Scenes | مشاهد أخيرة


حبر على الورق، الحجم A5 + A4
ink on paper, size A5 + A4



















مراجعة معرض — بورتريهات من مجموعة كاب



ذهبت إلى منصّة الفن المعاصر "كاب" لزيارة معرضهم المُعنوَن "بورتريهات من مجموعة كاب". يتكوّن المعرض من تسع عشرة لوحة "بورتريه"، أي إنّ موضوع كلّ لوحة هو وجه الإنسان. اللوحات لفنّانين مختلفين، منهم الكويتي ومنهم العربي ومنهم غير ذلك. أشهر الفنّانين المعروضين هو الإسباني بابلو بيكاسو والتي حظيت لوحته بالموقع الأهم في القاعة: إلى يمين النص التعريفي للمعرض حيث تكون أول لوحة يقترب منها الزائر بعد الدخول. ولكنني وجدت هذا العمل مملّ إلى حد ما، ولا يستحق هذا التصدير، فرغم محاولتي لم أجد فيه قدرة على جذب البصر ولا تحريك المشاعر ولا إمتاع العقل ولا إضافة المعنى، وإذا أردت ألا أكون قاسياً فسأقول أنّه يمثّل تجربة فنية غير مكتملة، لم تنضج بعد، ولم يصبّ فيها الفنان كامل جهده وإبداعه.
ولكن دعونا من بيكاسو التي تغزوا أعماله أغلب متاحف العالم كأنها جائحة تكعيبية ليس لها لقاح! فالمعرض يحتوي على أعمالٍ كثيرةٍ أخرى وفيه ما هو ذات وقعٍ أعمق. سأعرض عليكم بعضها مع تعليقٍ سريعٍ على كلٍ منها.


لوحة ثريا البقصمي "حوار السلام"
نرى في العمل رجلاً ملتحياً له وقار ملوك الأزمنة الغابرة، ظننته جلجامش لسبب ما. يلتفت الرجل نحو كتفه الأيسر حيث تقف حمامة بيضاء لا تبدو مرتبكة من قربها من هذا الرجل العظيم، بل ربما يكون هو المرتبك من قربه منها، فرقبته منحنية إلى الأسفل أما رقبتها فمائلة إلى الأعلى، وبينما يبدو رداؤه الأحمر كأنه يلفّه ويكبّله ويحدّ من حركته فالحمامة لا يمنع حركتها شيء. إذن ماذا يدور بينهما من حوار؟ وما نوع كلمات "السلام" التي قالتها الحمامة حتى ذهب عن هذا الملك جبروته وأصبح يصغي بخشوعٍ إلى تلك المخلوقة الرقيقة؟


لوحة سبهان آدم "بلا عنوان"
انظروا إلى هذا الوجه: ملويٌّ بعنف كأنّ العنق التي تحمله قد انكسرت تحت وزن ما يحتويه من خيبات، لونه شاحب مثل لون الخلفية الرمادية الباهتة، تملؤه التجاعيد الغزيرة التي تشبه خمشات وحش مفترس، منخاراه مكشوفان كأنّ أرنبة الأنف قد سطّحت بفعل لكمة قاسية، شفتاه مُحمرّتان ومُطْبقتان ومسحوبتان إلى الأسفل، شعره الأشعث كثيفٌ وأسودُ مثل جيش من النمل، وعيناه... ماذا عن عينيه؟ في النظرة الأولى ظننت أنهما مغلقتان، ولكن بعد التمعّن لحظت دائرتين زرقاوين ذائبتين إلى أطراف الرأس، كأنهما ثقبان صغيران، هما من الوجه وليس منه، ينظران إلينا فيكشفاننا كلياً، وننظر إليهما فلا نفهم شيء، يضيفان إلى هذا الرجل الكئيب والمكسور جانباً غامضاً وخطيراً ومخيفاً بعض الشيء.


لوحة مروان قصاب باشي "بلا عنوان"
هي ليست إلا خربشات سريعة، خطوط رصاصية متوازية ومتموّجة يظهر من بين تقاطعها وجه مبهم ومؤقت، كأنه سيُمحى بعد قليل ويختفي. من الصعب تحديد ملامح الوجه، فأجزاؤه مجرّد اقتراحات، وحدوده من الممكن أن تكون هنا أو هناك، ومادّته مشكوكٌ في وجودها كأنّ الوجه أقرب ما يكون إلى الفكرة منه إلى الواقع الملموس. فمه ليس إلا خطٌ دائري، أنفه مجرّد خطّين عاموديّين، وعيناه الكبيرتان لا نعرف إلى أين تنظر: اليمنى كأنها تنظر إلى شيء بعيد، واليسرى تحدّق إلينا بلا رحمة.


لوحة غادة الكندري "إلى أنْ"
هذه أكبر لوحات المعرض، والحجم هنا له تأثير مهم، فهو يرفع عيني الوجه المرسوم عن مستوى نظر الزائر، فرغم أن العينين تنظران إلى الأمام تماماً، فهما ينظران إلى ما هو وراء الزائر وليس فيه. يبدو أنّ هذا الوجه العملاق المقسوم إلى كلّ تلك الأشكال الملوّنة، هذا الوجه المليء بالثقة والهدوء، هذا الوجه الذي لا يرى حاجة في الإخفاء أو الاستحياء والمجاملة أو المجاراة، يبدو أنه لا يرى في زيارة الزائر ذلك الحدث المهم ولا ما هو جدير بالانتباه والتفحّص، بل يدير عينيه الواسعتين العارفتين إلى ما هو أبعد، إلى ما هو خلف الزائر وربما خارج المعرض، وأظنّ أنّه أبعد من ذلك حتى: أبعد مما يمكن لأقزام مثلنا إدراكه.


لوحة محمد العامري "بلا عنوان"
يبدو لي أنّه في هذه اللوحة ليس هناك شيءٌ حقيقيٌ إلا العينين البيضاويّتين اللتين تتوسطان الكنفاس المربّع. الأشياء كلّها سوى تلك العينين – مثل أعضاء الوجه الأخرى وخلفية اللوحة المزدحمة بالخطوط والغيوم البنيّة العاصفة – تبدو كأنها ليست إلا انعكاسٌ لما يراه هذا الإنسان المتجمّد: هو ليس انعكاساً ضوئياً مثل الذي تقوم به المرآة، بل انعكاسٌ روحيٌ للمشاعر. يا ترى ما الذي رأته هذه العينان المترنّحتان بين الصدمة والذعر؟ ويا ترى، أيكون منظرنا نحن – زوار المعرض الكرام – هو ما أدهش هذه العينين وملأ عالمها بالظلام والفوضى؟


في الختام، لا شكّ أنّ هناك متعة للعين وللعقل في النظر إلى هذه اللوحات، فمع كل عدة خطوات في أرض المعرض ننتقل من عالمٍ للشكلِ وللّونِ إلى عالمِ أشكالٍ وألوانٍ أخرى، وفي ذلك التنوع تنشطةٌ للعين وتحفيزٌ للعقل. ولكنني لا أرى أنّ هذه المتعة أهمّ ما تقدّمه لوحات المعرض، فالأهمّ من ذلك – حسب اعتقادي – هو أنْ يقضي الزائر بعض الوقت أمام كلّ بورتريه، كلّ وجه، كلّ عين مرسومة، ويحدد علاقته بها وعلاقتها به. من هو هذا الإنسان الظاهر على سطح اللوحة؟ ما الذي يفكّر فيه؟ ما الذي كان يفعله قبل الوقت الافتراضيّ للوحة وما الذي سيفعله بعد مغادرتي للمعرض؟ هل أرى في هذا الوجه ماضيّ أنا، أم مستقبلي؟ هل أرى شكلي كما يراني الآخرون، أم كما أراهم أنا؟ هل أخاف أنْ يأتي اليوم الذي تصبح فيه نظرتي مثل تلك المتجسّدة في اللوحة، أم أنّني أتمنى أن يراني الناس هكذا؟ وأخيراً، هل التفكّر في هذه اللوحات محاولة لاكتشاف الآخر، أم غوصٌ في أعماق الذات، أم مزيج من تلك المغامرتين؟