ذهبت إلى منصّة الفن المعاصر "كاب" لزيارة معرضهم المُعنوَن "بورتريهات من مجموعة كاب". يتكوّن المعرض من تسع عشرة لوحة "بورتريه"، أي إنّ موضوع كلّ لوحة هو وجه الإنسان. اللوحات لفنّانين مختلفين، منهم الكويتي ومنهم العربي ومنهم غير ذلك. أشهر الفنّانين المعروضين هو الإسباني بابلو بيكاسو والتي حظيت لوحته بالموقع الأهم في القاعة: إلى يمين النص التعريفي للمعرض حيث تكون أول لوحة يقترب منها الزائر بعد الدخول. ولكنني وجدت هذا العمل مملّ إلى حد ما، ولا يستحق هذا التصدير، فرغم محاولتي لم أجد فيه قدرة على جذب البصر ولا تحريك المشاعر ولا إمتاع العقل ولا إضافة المعنى، وإذا أردت ألا أكون قاسياً فسأقول أنّه يمثّل تجربة فنية غير مكتملة، لم تنضج بعد، ولم يصبّ فيها الفنان كامل جهده وإبداعه.
ولكن دعونا من بيكاسو التي تغزوا أعماله أغلب متاحف العالم كأنها جائحة تكعيبية ليس لها لقاح! فالمعرض يحتوي على أعمالٍ كثيرةٍ أخرى وفيه ما هو ذات وقعٍ أعمق. سأعرض عليكم بعضها مع تعليقٍ سريعٍ على كلٍ منها.
لوحة ثريا البقصمي "حوار السلام"
نرى في العمل رجلاً ملتحياً له وقار ملوك الأزمنة الغابرة، ظننته جلجامش لسبب ما. يلتفت الرجل نحو كتفه الأيسر حيث تقف حمامة بيضاء لا تبدو مرتبكة من قربها من هذا الرجل العظيم، بل ربما يكون هو المرتبك من قربه منها، فرقبته منحنية إلى الأسفل أما رقبتها فمائلة إلى الأعلى، وبينما يبدو رداؤه الأحمر كأنه يلفّه ويكبّله ويحدّ من حركته فالحمامة لا يمنع حركتها شيء. إذن ماذا يدور بينهما من حوار؟ وما نوع كلمات "السلام" التي قالتها الحمامة حتى ذهب عن هذا الملك جبروته وأصبح يصغي بخشوعٍ إلى تلك المخلوقة الرقيقة؟
لوحة سبهان آدم "بلا عنوان"
انظروا إلى هذا الوجه: ملويٌّ بعنف كأنّ العنق التي تحمله قد انكسرت تحت وزن ما يحتويه من خيبات، لونه شاحب مثل لون الخلفية الرمادية الباهتة، تملؤه التجاعيد الغزيرة التي تشبه خمشات وحش مفترس، منخاراه مكشوفان كأنّ أرنبة الأنف قد سطّحت بفعل لكمة قاسية، شفتاه مُحمرّتان ومُطْبقتان ومسحوبتان إلى الأسفل، شعره الأشعث كثيفٌ وأسودُ مثل جيش من النمل، وعيناه... ماذا عن عينيه؟ في النظرة الأولى ظننت أنهما مغلقتان، ولكن بعد التمعّن لحظت دائرتين زرقاوين ذائبتين إلى أطراف الرأس، كأنهما ثقبان صغيران، هما من الوجه وليس منه، ينظران إلينا فيكشفاننا كلياً، وننظر إليهما فلا نفهم شيء، يضيفان إلى هذا الرجل الكئيب والمكسور جانباً غامضاً وخطيراً ومخيفاً بعض الشيء.
لوحة مروان قصاب باشي "بلا عنوان"
هي ليست إلا خربشات سريعة، خطوط رصاصية متوازية ومتموّجة يظهر من بين تقاطعها وجه مبهم ومؤقت، كأنه سيُمحى بعد قليل ويختفي. من الصعب تحديد ملامح الوجه، فأجزاؤه مجرّد اقتراحات، وحدوده من الممكن أن تكون هنا أو هناك، ومادّته مشكوكٌ في وجودها كأنّ الوجه أقرب ما يكون إلى الفكرة منه إلى الواقع الملموس. فمه ليس إلا خطٌ دائري، أنفه مجرّد خطّين عاموديّين، وعيناه الكبيرتان لا نعرف إلى أين تنظر: اليمنى كأنها تنظر إلى شيء بعيد، واليسرى تحدّق إلينا بلا رحمة.
لوحة غادة الكندري "إلى أنْ"
هذه أكبر لوحات المعرض، والحجم هنا له تأثير مهم، فهو يرفع عيني الوجه المرسوم عن مستوى نظر الزائر، فرغم أن العينين تنظران إلى الأمام تماماً، فهما ينظران إلى ما هو وراء الزائر وليس فيه. يبدو أنّ هذا الوجه العملاق المقسوم إلى كلّ تلك الأشكال الملوّنة، هذا الوجه المليء بالثقة والهدوء، هذا الوجه الذي لا يرى حاجة في الإخفاء أو الاستحياء والمجاملة أو المجاراة، يبدو أنه لا يرى في زيارة الزائر ذلك الحدث المهم ولا ما هو جدير بالانتباه والتفحّص، بل يدير عينيه الواسعتين العارفتين إلى ما هو أبعد، إلى ما هو خلف الزائر وربما خارج المعرض، وأظنّ أنّه أبعد من ذلك حتى: أبعد مما يمكن لأقزام مثلنا إدراكه.
لوحة محمد العامري "بلا عنوان"
يبدو لي أنّه في هذه اللوحة ليس هناك شيءٌ حقيقيٌ إلا العينين البيضاويّتين اللتين تتوسطان الكنفاس المربّع. الأشياء كلّها سوى تلك العينين – مثل أعضاء الوجه الأخرى وخلفية اللوحة المزدحمة بالخطوط والغيوم البنيّة العاصفة – تبدو كأنها ليست إلا انعكاسٌ لما يراه هذا الإنسان المتجمّد: هو ليس انعكاساً ضوئياً مثل الذي تقوم به المرآة، بل انعكاسٌ روحيٌ للمشاعر. يا ترى ما الذي رأته هذه العينان المترنّحتان بين الصدمة والذعر؟ ويا ترى، أيكون منظرنا نحن – زوار المعرض الكرام – هو ما أدهش هذه العينين وملأ عالمها بالظلام والفوضى؟
في الختام، لا شكّ أنّ هناك متعة للعين وللعقل في النظر إلى هذه اللوحات، فمع كل عدة خطوات في أرض المعرض ننتقل من عالمٍ للشكلِ وللّونِ إلى عالمِ أشكالٍ وألوانٍ أخرى، وفي ذلك التنوع تنشطةٌ للعين وتحفيزٌ للعقل. ولكنني لا أرى أنّ هذه المتعة أهمّ ما تقدّمه لوحات المعرض، فالأهمّ من ذلك – حسب اعتقادي – هو أنْ يقضي الزائر بعض الوقت أمام كلّ بورتريه، كلّ وجه، كلّ عين مرسومة، ويحدد علاقته بها وعلاقتها به. من هو هذا الإنسان الظاهر على سطح اللوحة؟ ما الذي يفكّر فيه؟ ما الذي كان يفعله قبل الوقت الافتراضيّ للوحة وما الذي سيفعله بعد مغادرتي للمعرض؟ هل أرى في هذا الوجه ماضيّ أنا، أم مستقبلي؟ هل أرى شكلي كما يراني الآخرون، أم كما أراهم أنا؟ هل أخاف أنْ يأتي اليوم الذي تصبح فيه نظرتي مثل تلك المتجسّدة في اللوحة، أم أنّني أتمنى أن يراني الناس هكذا؟ وأخيراً، هل التفكّر في هذه اللوحات محاولة لاكتشاف الآخر، أم غوصٌ في أعماق الذات، أم مزيج من تلك المغامرتين؟