الفن والتعبير في زمن الحرب على غزة
__________________
المقدمة: الفن والقضية
ليس من المُستغرب أنْ تكون القضية الفلسطينية، وبالأخص الحرب على غزة، حاضرةً في العديد من المعارض الفنية في الكويت في الآونة الأخيرة. فالفنان عادةً ما يكون صاحب إحساسٍ مرهف، يتأثر شعوره بما يحيطه من مشاعر، فكيف له أنْ يرى الدماءَ والدمارَ دون أنْ تسيطر تلك المشاهدُ على ذهنه، ثم تغلي وتفور وتنصبُّ فيما يصنعه من أعمالٍ فنية؟
وربما هناك تحليلٌ آخر: في مجتمعنا نظرةٌ سائدةٌ للفن التشكيلي على أنه ترف، على أنه صناعةٌ للجمال لغرض الاستمتاع، أو إظهارٌ للمهارة لغرض الإبهار، أو غير ذلك من تفسيراتٍ لوجود الفن، كأنّ الفن التشكيلي فعلٌ غريبٌ وخارجٌ عن مجريات الحياة، خارجٌ عن المجتمع والسياسة والاقتصاد وكل ما هو "مفيد"، لذلك فهو بحاجةٍ إلى تبريرٍ كي لا تنفضح حقيقته: هو للأطفالِ لَعِبٌ، وللكبارِ مَضيعةٌ للوقت.
أنا لا أتفق مع تلك النظرة طبعاً، فأنا للفن ممارسٌ ومتابعٌ ومشجّع، ولكنني لا أنكر أنّ تلك النظرة تؤثر عليَّ أحياناً، فأسأل نفسي: هل أنا أضيّع وقتي حينَ انكَبُّ بالساعات على ورقةٍ صغيرةٍ لأضع عليها بقعَ الألوان وخطوطَ الحبر، لتُصوّر مشهداً متخيَّلاً لأرضٍ ممتدةٍ وأفقٍ حادٍّ وسماءٍ كبيرة؟ ما فائدة تلك الورقة والعشرات غيرها من الأوراق الملونة والمخطَّطة؟ كيف أُبَرّر ما أبذله لأجلها من وقتٍ وجهد؟ الحقيقة هي أنّ هناك العديد من الأجوبة المقنعة لهذه التساؤلات، ولكنني سألتزم في هذه المقدمة بالأسئلة المُقلقة لا الأجوبة المُطَمْئنة، وذلك لأنَّ بعض الأسئلة لا تنتهي قيمتها وتأثيرها حتى إنْ توفَّرت لها بعض الأجوبة المقبولة. لذا، فمهما حاول عقلي الردَّ على ما سبق من أسئلةٍ بأجوبته العملية والفلسفية، أظلُّ أسأل نفسي: أَيَجِبُ عليَّ أن أُعيد تصميم نشاطي الفني لتكون موضوعاته أقرب إلى واقعنا اليومي؟ أنْ أُحَوّلَ فني من التجريد والإبهام والصمت إلى أنْ يُصبح بَيِّن القصدِ ومُباشر المعنى وسهل الفهم؟ أليس عليَّ أن أُكرّس هذا الوقت والجهد في العمل الفني لمناقشة أحدث المواضيع الساخنة أو لِحلّ أحدث مشاكل العالم؟ وهل هناك موضوعٌ أَسْخَنُ أو مشكلةٌ أَشْنَعُ في يومنا هذا من الحرب على غزة؟
هذه تساؤلاتي، ولكنني لا أظنّ أنها تساؤلاتي وحدي. أعتقد أنّ هذه الحرب غيَّرت من نظرة الكثير من الفنانين لِفَنِّهم، فصار من المستحيل الاستمرارُ بالعمل الفني المعتاد دون الشعور بتفاهة ذلك العمل، بل بِحقارته أمام ما يرونه من إبادة. صار الاختيارُ إما الاستمرار بما كانوا يصنعونه من أعمالٍ ولكن مع شيءٍ من الخجل والخيبة، وإما أنْ يغيروا مسارهم الفني ليكون أكثر تفاعلاً مع الأحداث.
لذلك فليس من المُستغرب أن يتَّجِهَ العديدُ من الفنانين إلى تناول موضوع فلسطين وغزة في أعمالهم الفنية. هذا طبيعيٌّ جداً، بل مُحَبَّذٌ، ولا يدلُّ إلا على رغبةٍ صادقةٍ من أولئك الفنانين لتكريس كلّ ما يملكون من قدراتٍ لخدمة ما يرونه من قضيةٍ عادلة. ولكن — وهنا تأتي الملاحظة التي بَنَيتُ كلَّ هذه المقدمة من أجلها — أحياناً ما تكون تلك الحماسةُ المحبَّذةُ لدعم القضية ليست الوسيلة الأفضل لخلق عملٍ فنيّ جيد، أو على الأقل فهي قد تُنتِجُ عملاً فنيّاً غير متناسق مع بقية أعمال الفنان. فقد شعرتُ لعدة مراتٍ عندما دخلتُ معرضاً ما أنَّ هناك فرقاً واضحاً بين تلك الأعمال التي أنتجها الفنانُ بشكلٍ طبيعي (أي أنه اتَّبع في إنتاجها اهتماماته الفنية المتأصلة أو الفطرية، والتي تطورت بشكلٍ انسيابي خلال مسيرته الفنية) وبين تلك التي شعر أنه يجب عليه صنعها لأنَّ في عدم صنعها خيانةً لقضيةٍ ما أو خذلاناً لأصحاب حق (تلك هي الأعمال التي أُنتِجَت تحت وطأة ضغوطٍ خارجية، ليست أصيلةً في اهتماماته الفنية).
هنا يجد الفنانُ نفسه أمام اختيارٍ صعب، وأنا منهم: هل أصنعُ أعمالاً فنيةً أرى أنها ذات جودةٍ عاليةٍ ولكنها منعزلةٌ عن العالم وأغلب سُكّانه، أو أنْ أُجبر نفسي على صناعة أعمالٍ فنيةٍ ذات علاقةٍ مباشرةٍ بأهم قضايا اليوم (مثل الحرب على غزة)، حتى ولو كانت النتيجةُ أعمالاً ذات جودةٍ فنيةٍ متواضعة؟
أنا احترم كل مَن يختار بين هذين الاختيارين مهما كان اختياره، طالما أنه عالِمٌ وواثقٌ لما يختار، وذلك لأنني أرى أنَّ لكلّ عملٍ فنيّ صادقٍ قيمةً مضافةً للبيئة التي صُنِع فيها، وقدرةً ثابتةً على التأثير الإيجابي على الفنان نفسه والناظر إلى العمل والعالَم بأسره. لكن هذا لا يعني أنَّ ليس لهذا الاختيار ثمن، فَرُغم أنَّ القيمة المضافة والتأثير الإيجابي متواجدان في كلّ الأعمال الفنية — إذا أخذتم برأيي — فإنَّ نوع تلك القيمة واتجاه ذلك التأثير يتغيَّران بتغيُّر الاختيار. فهنا عملٌ فنيٌّ قيمته هي نشر السعادة، وذلك عملٌ قيمته نشر الوعي، وثالثٌ قيمته التحفيز على نشاطٍ ما، إلخ. إذن يجب على الفنان أنْ يختار بعناية، فلربما وجد نفسه على قمة جبلٍ لم يقصدْ صعوده، أو في أوج نجاحٍ لم يرغبْ به. فما فائدة الوصول إلى الوجهة إذا لم تكن تلك الوجهة غاية المرء أصلاً؟ يجب على الفنان أنْ يسأل نفسه أولاً: عملي الفني هذا، من أين؟ ولمن؟ ولأيِّ هدف؟
المعرض: "أشعر كالأمس" في "غاليري هُنّا" للفنانة "ريم آر"
أعترف أنَّ ما سبق من تساؤلاتٍ تفضح ما في عقلي من أفكار، ولكنها على الأغلب لا تفيدنا في فهم معرض "أشعرُ كالأمس" الذي أُقيم في "غاليري هُنّا" من 29 أبريل إلى 22 مايو 2025 للفنانة الفلسطينية "ريم آر" (مواليد 1995). قاعة المعرض صغيرة، قريبة إلى شكل المربع، يتوسطها حائطٌ مستطيل. مَن يدخل المعرض يجد طاولة الاستقبال إلى اليمين والنصَّ التعريفيَّ للمعرض إلى اليسار، وأمامه على الحائط الوسطيّ لوحةٌ زيتيةٌ كبيرةٌ بعنوان "قشرة البرتقال". تحتوي هذه اللوحة على الكثير من العناصر التي سيواجهها الزائر في لوحات المعرض الأخرى، لذلك سأبدأ بتحليلِ أهمِّ عناصرها.
أولاً، رَسمت الفنانة بورتريهً شخصياً لنفسها، عيناها تستقبلنا بنظرةٍ صلبة، ويداها تبدوان كأنهما تحاولان التواصل معنا بلغة الإشارة، فهما متعاكستين في الاتجاه بشكلٍ لافت، أما القسم الأسفل من جسدها فهو مخفيٌّ خلفَ طاولة. البورتريه مرسومٌ بدقةٍ كبيرةٍ تكاد تظهر كصورةٍ فوتوغرافية، ومن هنا نستخلص ثيمَتَين أساسيّتَين للمعرض وهما رسم الذات والدقة الفوتوغرافية للرسم. إذا التفتنا إلى اللوحات الأخرى في المعرض نجد أنَّ أكثرها يحتوي على جسد الفنانة كذلك، إلا أنَّ الجسد غير مكتمل: هنا جزءٌ من الوجه والرقبة، وهناك يدان مفتوحتان، وهنالك كتفٌ وذراعٌ وأعلى البدن، كأنه يصعب على الكانفاس الواحد جمعُ متناقضات هوية الفنانة في إطاره الضيّق.
ثانياً، هناك موضوع الفاكهة والزهور، ففي اليد اليسرى للفنانة برتقالة وعلى الطاولة برتقالتان، إحداهما مقشرة، وزهرتان بنفسجيّتان كأنَّ إحداهما تنبت من قشرة البرتقالة. في باقي لوحات المعرض نجدُ أنواعاً أخرى من الفاكهة والزهور، فمثلاً نرى البطيخ (الرقّي) في لوحةٍ والرمان في أخرى وزهرة الزنبق كذلك. الإشارة هنا واضحةٌ إلى أرض فلسطين، فالبرتقال هي المشهورة به مدينة يافا والبطيخ أصبح بألوانه الأربعة (الأخضر والأحمر والأبيض والأسود) رمزاً عالميّاً لعلم فلسطين. نُضيف إلى ذلك أنَّ الفاكهة والزهور هي من نِتاجِ الأرض، تتغذى على التربة التي تُغرَسُ فيها، ولذلك تأخذ من طبائع أرضها ومناخها وأناسها، فمهما ابتعد البرتقال عن مكان قَطْفِه، ومهما كانت وسيلة نقله بالشاحنة أو الطائرة، ومهما كان مَن باعه ومَن اشتراه ومَن قشَّرَه ومَن أكله وفي أيِّ أرض، يظلُّ هذا البرتقال فلسطينيّاً.
ثالثاً، نلاحظُ ما حول بورتريه الفنانة: الخلفية الزرقاء في الأعلى وغطاء الطاولة الأسود في الأسفل، وخاصةً تأثيرات الشدّ والرّخاء التي تظهرُ عليهما. فالخلفية الزرقاء تظهر كأنها قطعة قماشٍ قد تمَّ شدُّها من قبل مصوّرٍ فاقدٍ للاحترافية، فهي من جهةٍ ناتئةٌ لفرط الشدّ ومن جهةٍ أخرى تظهر عليها آثار الطيّ والتجعيد. أما الطاولةُ فهي مغطاة بقماشٍ أسودٍ متموّجٍ لا يستجيب شكله لِسَطْحيّة الطاولة البتةَ، كأنه قرّر أن يحقّق حُلمه بأن يُصبح بحراً يحملُ على أمواجه البرتقال والزهور. في اللوحات الأخرى للمعرض نرى الشيء ذاته، إما القماش المُموّج كما وصفناه في لوحة "قشرة البرتقال"، أو الورق الممزَّق والمُكرمش مثل خلفية لوحة "الزنابق والأكاذيب". نرى بذلك أنَّ الفنانة تُصرُّ على أنْ تخلق بنفسها الأسطح التي ترسم عليها، فهي لا تعتمد على الكانفاس الأبيض المستطيل والأملس، بل تصنعُ عليه سطحاً جديداً مرسوماً (كأنه قماشٌ أو كأنه ورقٌ) ومن ثمَّ تضيفُ على هذا السطح الجديد الموضوع الأساسيَّ للوحة (بورتريهٌ أو فواكهٌ أو زهورٌ). فلو افترضنا أنَّ العمل الفنيَّ — بشكلٍ عامٍ لا للفنانة ريم فقط — في أصله وهمٌ يخدعُ به الفنانُ مَن ينظر إليه لينقل إلى الناظر فكرةً أو شعوراً ما، إذن يُمكننا وصف هذه اللوحات بأنها وهمٌ على وهم: الفنانةُ هنا تصنعُ الإطار والصورة التي في الإطار. نحن أمام خدعةٍ بصريةٍ مضاعفةٍ حيث يكون هذا التضاعف بمثابة إشارة تنبيهٍ للناظر ليعرف أنه يُخدع، ليعرف أنه في حضرة سحرٍ بصريّ، وذلك دون أن تُنقص تلك المعرفة من إعجاب الناظر بما ينظر إليه، بل تزيدُه. فالوهم هنا أداةٌ لكشف الحقيقة لا للتضليل.
كيف نجمعُ تلك العناصر الثلاثة لنصل إلى فهمنا الخاص للوحة "قشرة البرتقال"؟ الفنانة تُمثّلُ نفسها كجسدٍ وكهويةٍ من خلال رسم البورتريه الذاتي، ثم تربط هذا الجسد والهوية بأرض فلسطين من خلال البرتقال والزهور، وأخيراً تتلاعبُ بمفاهيم الحقيقة والزيف من خلال التناقض بين دقة اللوحة المُذهلة (التي تخدعنا فنظنُّ أنها صورة) وبين صناعتها المسرحية لبيئة اللوحة (الخلفية الزرقاء والمفرش الأسود). التداخل بين هذه العناصر يطرح عليَّ أسئلةً عميقةً (لا أفترض أنها ما قصدته الفنانة أو ما أرادت للناظر أنْ يسأل، بل هي أسئلتي أنا لنفسي أنا):
أولاً، هل علاقتي بالقضية الفلسطينية علاقةٌ فِطريةٌ ومتأصّلةٌ (أي أنه لا خيار لي في نشأتها)، أم أنها علاقةٌ مصنوعةٌ من خلال اختياري بأنْ أتابعها وأدعمها (عاطفيًّا وشفهيًّا وعمليًّا)؟ ثم من هي الأهمُّ في تكوين هويتنا: العلاقات الفطرية التي تسبق الاختيار، أم العلاقات التي نصنعها ونُصِرُّ عليها باختيارنا؟
ثانياً، ما دور تصميم البيئة الفكرية والإعلامية التي نقيم فيها أحاديثنا حول القضية الفلسطينية؟ لا أقصد هنا ما نقوله عن القضية ذاتها، بل ما حول ذلك القول من أفكارٍ مُسبقةٍ ومعلوماتٍ مُسَلَّمٌ بها ومشاعر دفينةٍ وغيرها مما يمكن أنْ يغير أثر القول على المستمع. فالخلفية الزرقاء للوحة أراها كأنها خلفيةٌ مؤقتةٌ قد وُضِعت بِعُجالةٍ وسيتمُّ استبدالها لاحقاً بخلفيةٍ أخرى أكثر ملاءمةً للعناصر الرئيسية للوحة، فأسأل نفسي: ما عساها تلك الخلفية الجديدة أنْ تكون؟
أخيراً، أسأل عن الرموز، أسأل عن الزهرة والبرتقالة وقشرتها، أسأل عن اللون ومعناه، عن الأسود والأزرق والبنفسجي والبرتقالي، أسأل عن وظيفة الرموز — مثل البرتقالة — فأقول: أَوَظيفةُ الرمز هي اختزال موضوعٍ معقّدٍ في صورةٍ مألوفةٍ ولطيفةٍ حتى لا تُشتّتنا التفاصيل الكثيرة؟ أم وظيفته هي أنْ يلفت الأبصار ويجمع الأذهان ويوحّد الناس تحت رايةٍ واحدةٍ فلا تفرقَّهم الاختلافات الصغيرة والمؤامرات الحقيرة؟ أم وظيفته هي أنْ يصنع غِلافًا سهلاً على الناس فهمه يحمي ما في لبّ الموضوع من تعقيدٍ وتشابكٍ، فيكتفي العامة بذلك الغلاف ويستفيدوا منه، أما الخاصة فيبحثوا عما هو تحت الغلاف، فيقشروا البرتقالة؟
سلسلة الأوراق المُكَرْمشة
هناك مجموعةٌ أخرى من اللوحات الزيتية في المعرض، ثمانية بالتحديد، معروضة على الحائط الخلفي للقاعة، موضوعها مختلفٌ عن البقية. لِكانفاس اللوحات الثمانية نفس الشكل المربّع والحجم المتوسط، وتظهر في كلّ اللوحات ورقةٌ مكرمشةٌ عليها رسمةٌ طفوليةٌ تبدو كأنها عُلّقت على الكانفاس بشريطٍ لاصقٍ يتوسطُ أعلى الورقة. الأوراقُ وتعرّجاتها وظلالها مرسومةٌ بشكلٍ فائق الاتقان حتى أنّ الورقة تبدو حقيقيةً وخارجةً من سطح الكانفاس، وحتى الرسمات على الأوراق تبدو خطوطها كأنها من فعل طفلٍ ذكيّ قد مسك ألوانه الرصاصية وأفرغ ما في خياله على المستطيل الأبيض للورقة، وذلك رغم أن اللوحات مسطحةٌ بالكامل ومنجزةٌ بالألوان الزيتية.
إذا قرأنا النصّ التوضيحي للمعرض سنجد في الفقرة قبل الأخيرة وصفاً لهذه السلسلة، أهمُّ ما فيه هو أنّ هذه اللوحات مستوحاةٌ من رسومات أطفال فلسطين وأنها تحوّل تصاويرهم الطفولية إلى رموزٍ للحزن والصمود وتوثيق الحاضر. فما هي تلك الرسومات الظاهرة في اللوحات؟ في اللوحة الأولى (من اليسار إلى اليمين) وعنوانها "ديما" تظهر فتاةٌ ترتدي فستاناً ملوّناً لها مكان الذراعين خطّان أسودان قصيران، في اللوحة الثانية وعنوانها "مع بعض" يظهر حشدٌ من الناس منهم الكبار والصغار، في اللوحة الثالثة وعنوانها "النور عندي" يظهر ولدٌ يحمل شمعةً في مكانٍ مظلم، في اللوحة الرابعة وعنوانها "حل عني" يظهر طفلٌ مُختبئ في زاوية غرفةٍ لها نافذةٌ من جهةٍ وخريطة فلسطين من الجهة الأخرى، في اللوحة الخامسة وعنوانها "السماء شاهدة" تظهر شجرةٌ في عدة مراحل من السقوط وعينٌ حمراء في السماء تساهم دموعها في إسقاط الشجرة، في اللوحة السادسة وعنوانها "فتح يا وردة" تظهر زهرةٌ حمراء لها أربع أوراق خضراء، في اللوحة السابعة وعنوانها "راجعين" تظهر سيارةٌ محملةٌ بالصناديق تسير على شارعٍ مستقيم، في اللوحة الثامنة والأخيرة وعنوانها "كبر الشجرة" تظهر فلاحةٌ بالزيّ الفلسطيني تقطف البرتقال من شجرةٍ سَبق أنْ قُطعت ولكنها أنبتت أغصاناً جديدةً ومثمرة.
بناءً على هذا الوصف، ليس من الصعب أنْ نُكوّن فهماً خاصّاً لهذه اللوحات وربطها بأطفال فلسطين، فنقول مثلاً أنّ لوحة "ديما" هي لفتاةٍ بُتِرتا ذراعاها إثرَ انفجارٍ لأحد قنابل العدو الصهيوني، ورغم ذلك فهي مبتسمةٌ ومستعدةٌ ليومٍ جميل. أما لوحة "السماء شاهدة" فيمكن أن نفهمها كتعبير طفلٍ عما يراه من قطعٍ متعمّدٍ لأشجار الزيتون وصوّرَ حُزنه لهذا من خلال العين في السماء التي تبكي دماً. وهكذا يمكننا أنْ نُحلّل اللوحات واضعين جلّ اهتمامنا بما فيها من رسوماتٍ طفولية، ولكن رغم أنّ ذلك التحليل سيكون مقنعاً فإنني أراه ناقصاً ولا يأخذ بعين الاعتبار الورقة المُكرمشة والشريط اللاصق.
إذن ما هو التحليل الأفضل؟ اقترح أنْ نُحلّل اللوحات على أنها قصصٌ وأحداثٌ بدل من تحليلها على أنها معانٍ ورموز. قولنا بِأنّ للشيء معنى هو أنْ نصل ما بين محتواه وما هو في العالم الخارجيّ، فمثلاً في لوحة "حل عني" نقول إنّ الولد يُمثّل الطفل الفلسطيني، ومكانه في الزاوية يُمثّل خوفه من قساوة العالم، والأرضية بالأبيض والأسود تُمثّل البرودة الروحية للمكان، والنافذة المطلة على سماءٍ زرقاء تُمثّل ما يتمناه الطفل من أمنٍ وجمال، وخارطة فلسطين تُمثّل الامتداد الجغرافيّ للحالة التي يعيشها الطفل، وهكذا نستمرُّ في ربط كلّ عنصرٍ في اللوحة بما هو خارجها من أشياءٍ ومشاعرٍ وأفكار. بهذه الطريقة تصبح تجربة النظر إلى اللوحة أشبه بعملية حلّ الألغاز، فكلُّ عنصرٍ في التكوين يحتاج إلى تفكيكٍ على أنه يرمز لشيءٍ أو فكرة، ثم نجمع تلك الرموز والمعاني في النهاية لنخرج بالدلالة الشاملة للوحة.
أما إذا حلّلنا هذه اللوحات على أنها قصصٌ وأحداثٌ (وهو ما اقترحه) فالنتيجة مختلفة جداً. الخطوة الأولى هي أن نفهم ما تصوّره اللوحات بشكلٍ حرفيّ، أي أننا أمام رسمةٍ لطفلٍ على ورقةٍ مكرمشةٍ قد تمّ تعليقها على حائطٍ أبيض بواسطة شريطٍ لاصق. ثم نسأل أنفسنا: ما هي القصة التي يمكن أنْ نتخيّلها حتى يكون هذا المشهد واقعيّاً؟ أنا أفهم هذا المشهد على أنه مكونٌ من ثلاثة أحداث، الأول هو أن طفلاً ذكيّاً أبدع رسمةً تُعبّر عن مشاعره وأفكاره على ورقةٍ صغيرةٍ بألوان الرصاص، الحدثُ الثاني هو أنّ الطفل نفسه أو شخصاً آخر كرمش الورقة بعنفٍ لِما سَبّب له محتواها من إزعاج، والحدث الثالث هو أنّ الرسام أو المُكرمش للورقة أو شخصاً آخر قرّر أنْ يفتح الرسمة المُكرمشة ويعلّقها على الحائط رغم ما أصابها من ضرر. إذن القصة هنا بسيطة، أوّلها عملٌ إبداعيّ فيه نوعٌ من الشجاعة (إما لِما في الرسمة من تفاؤل، مثل لوحة "فتح يا وردة"، أو تعبير صادق للنفس مثل لوحة "حل عني")، تتلوه لحظة ضعفٍ فإما أنّ الطفل فقد شجاعة التفاؤل والتعبير أو أنّ أحداً آخر انزعج لما في اللوحة من صدقٍ فكانت النتيجة هجوماً عصبيّاً على الورقة، وأخيراً هناك محاولةٌ لإصلاح ما تمّ إتلافه فمَن قام بتعليق الورقة يُصرُّ على عرض الرسمة للعالم ويُعلِنُ تبنّيه لِما فيها من تفاؤلٍ وتعبيرٍ وصدق.
الدرس الذي نخرج به من هذه القصة هو أهمية التمسّك بحقّ التعبير الصادق، حتى ولو كان فيه تفاؤلٌ لا يبرّره واقع العالم التعيس، وحتى لو كان فيه كشفٌ لحقيقةٍ مؤلمة، فالتعبير الصادق حقٌّ، بل خيرٌ، بل واجبٌ، وذلك دون أنْ يأتي لغرضٍ معيّنٍ أو في إطارٍ محدَّد، ما دام أنّ التعبير صادقٌ فيجب علينا أن نحتفي به ونُظهره أمام العالم دون خجلٍ أو تردد. هكذا يفهم بعضنا بعضاً، وتسقط الحواجز وتصبح المسالك جاريةً للتآلف والمودة.
اختصار قصة هذه اللوحات هي: عَبِّرْ عن نفسك مهما كانت مشاعرك وأفكارك، واعرضْ تعبيرك للعالم حتى ولو كان مُكرمشاً.