تَصيح تِلكَ المنفية،
الآتية من بَعيد:
الصوابر... ليتَ الحياة تعود فيكِ،
و لكني أخشى أنْ لا مكان لمثلكِ بيننا،
أكُنتِ كما ظننا أم لم تكوني
في آخر كل أحلامنا الدمار،
و في أولها أيضاً،
الصوابر...
كيف تريدين العيش بيننا
و كل ما فيكِ يناقضنا؟
فأنتِ...
قديمة و نحن لا نريد أن نتذكر الماضي
و جديدة و نحن لا يخجلنا أكثر من حاضرنا
و أنتِ...
قبيحة و نحن نحب بريق الألوكوبوند و ملاسته
و رومانسية الجمال و نحن لا نستسيغ شِعرَ الخرسانة
و أنتِ...
كبيرة شاسعة المساحة و نحن نسعى للإقتصاد في كل شيء
و صغيرة ناقصة و نحن لن نُضحي برفاهية أحلامنا
و أنتِ...
رخيصة القيمة و نحن نرى القيمة فيما فَحُشَ من الغنى
و عالية الكلفة و نحن عاجزون عن تكاليف هُويَّتنا
الصوابر...
لماذا تريدين العيش بيننا؟
ألم نفشل في كل واجباتنا تجاهكِ؟
ثيابكِ لم تُغسل،
داركِ لم تُرتَّب،
جروحكِ لم تُطبب،
كسوركِ لم تُجبر،
ألم نهجركِ وقت المحنة؟
ألم نحرقكِ وقت الغفلة؟
الصوابر...
لماذا تريدين العيش بيننا؟
الحياة هنا لا تطاق لمثلكِ،
عودي كما كنتِ
أحجارٌ و ترابٌ و غبار،
عودي إلى الصحراء
و نامي تحت رمالها،
فالصَّمتُ أرحم من هجاء الأحبة.
أو...
إن كنتِ مصرَّة على البقاء،
كوني مستعدة للتيه طويلاً في شوارع المدينة،
شوارعٌ متشابكة
لا يدلها إلا الجاهل بالاتجاهات،
شوارعٌ كلها تؤدي إلى الإحباط،
و لكن أيقني أن في مدينتنا
الإحباط و النجاح رفيقان،
كوني مستعدة لأبواق السيارات
و تقاسيمها المترنحة بين الشماتة و الغضب،
كوني مستعدة لمن سيطوفون حولكِ
و نظراتهم الغارقة في الشهوة و الطمع،
كوني مستعدة لخططِ المغفَّلين،
خططٌ يحتاج تفسيرها إلى خطة،
خططٌ يحتاج تطبيقها إلى خطة،
خططٌ أشبهُ بالهذيان.
أخيراً...
عَزِّي نفسك بأحلام الحجر
و اسحتضري تفاؤل الفكرة الأولى،
تذكري ذلك البنَّاء العجوز
مات، و أكمل عمله أبناءه
و إذا سُئِلتي
لماذا تريدين العيش بيننا؟
قولي... إن تركتُ أرضي، ما عُدْت أنا،
و أنتم، إن تركتكم، ما عُدْتم أنتم،
أنا لا أعيش بينكم،
أنتم من يعيش حولي.
الصوابر...
ليتَ الحياة تعود فيكِ،
و فينا.
عصفورٌ أزرق .. الصَّوابر .. سماء ملوَّنة .
ReplyDeleteبمنطقة الصوابر... في أحد البنايات المتهالكة ظاهرا ... ولكن أساسها قوي كشجر الصنوبر الشامخ ... تسكُنُ عجوزٌ مسنّة .. يزورهاأحفادها من حينِ إلى حين ...
وفي يومٍ من الأيام أتاها حفيديها بهديتين ... عصفورٌ أزرق وأصيص زهرِ البنفسج ..
فرِحت العجوز كثيرا بالهديتين .. وأخذت تسقي زهر البنفسج كل يوم بعد وضعها على حافة الشُّرفة .. وكانت تطلق سراح العصفور الأزرق كي يجوب ضواحي المنطقة ... واثقةً بأنه سيعود ...
و كم كان العصفور يسعد بحريته في وقت ٍ سلبت به الحريات ...
قفزَ العصفور يوما إلى أصيص زهر البنفسج الزكي وأخذ يراقب من بعيد .. فجر يوم جديد ...
مع صوتِ الأذان.. شاهد رجلا مسناً يمشي إلى المسجد وشاهد بعده العديد والعديد من الوجوه الغريبة ...كلُّها ذاهبة إلى مسار واحد .. المسجد ....
هنا .. شكر العصفور الأزرق ربه على تآلف القلوب في زمنٍ كثر به الجدال ...
وبعد انتهاء وقت الصلاة أخذ كل واحد يسير باتجاه مختلف إلى مكان عمله.... لفت إنتباهه إحدى المقاهي العربية القديمة ... اذ كان يعمل بها صبيٍّ بجهدٍ واجتهاد وكان يرتدي دشداشة قديمة وبالية ...ولكنه كان سعيدا فاستغرب العصفور الأزرق من سعادته ..!
إلى أن بزغ نور الشمس وأخذت الشمس تلقي بأشعتها على شيءٍ بيد الصبي .. كان يحمله باعتزاز .. وعندما دقق العصفور الأزرق النظر رآه ممسكا بصينية من استيل جديدة ... أطرافها تعكس ضوء الشمس وهو يحملها بزهُوٍّ وافتخار ...
فابتسم العصفور الأزرق قائلا .. ما أحلى سعادة هذا الصبي في زمن لا يَسعَدُ به من سُعِد إلا من كان محتالا استطاع النفاذ بحيلته ولم يسبقه إليها أحد ...
وفي حافة الطريق رأى بائعاً يهمُّ بفتحِ أبواب دكّانه الصغير من السلاسل الحديدية الصّدئة أطرافها... وإذا به يكشِفُ عن جنّةٍ صغيرةٍ بها كلّ أنواع الحلويات الشعبية ... ومع انتصاف النّهار ... شاهد فتاةٌ بفستانٍ أصفر ... تطلب منه أن يبيعها .. سكاكر توأم الكرز .. فأعطاها إياها باسما وأخذتها الفتاة متشوّقة لمذاقها وهي تتراقص فرحةً عائدة إلى المنزل ..
اعترى العصفور الأزرق فرحٌ شديد من جمال براءة هذا المنظر في وقتٍ لا يَطربُ به من طُرِب إلا لإيقاع موسيقى يكاد لايفهمها منها شيء سوى الضجيجُ الصّاخِب ...
ومن بعيد سمع العصفور الأزرق أصوات غريبة في الأسفل فقرر أن يطير إليها ليرى ما السبب ..!
فوجد حفّارات بدأت بالعمل .. وكانت تكسر أجزاءا من بيوت صغيرة .. هجرها سكانها ولم تلق غير الحفّارات مخلِّصا لها من سكون
الصّمت الطّويل ..
حزِن العصفور الأزرق وحلَّق باتجاه آخر ... فوجد بجانب الطريق أشياء برّاقة لا يعرف لها اسما ... ووجد محلاً تُفتح أبوابه الجديدة وتساق إليها هذه الأشياء ... والزبائن بالخارج كانوا يقفون بطابورٍ طويل ... ولكن كان هناك شيء غريب ... ملامحهم .. كانت لا تكسوها تعبيرات وكأنهم أجسادٌ بلا أرواح .... ينتظرون البضاعة الجديدة لإمتلاكها لا لاستخدامها ..... اشمأزّ العصفور الأزرق وقرر التحليق باتجاه اخر ...
جميل جداً!!
Deleteأعجبي أن القصة تبين أهمية البنيان ليس في حجره و لكن في الحياة الإنسانية التي تدور حوله
نعم .. بالضبط 😊👏🏻
Deleteوعندها سمع رجلا يضع خوذة صفراء غريبة عن أزياء سكّان الحي يكلِّم صاحبه .. فقرر أن يقترب منه منصتا لعله يفقه شيئا من حديثه ...
ReplyDeleteفسمعه وهو يتحدّث عن مباني وعمارات جديدة بُنِيت تحت إشرافه ... وكان يكمل حديثه بعظمةٍ وعلو.. فاستمتع العصفور الأزرق بعِظم إنجازاته .. إلى أن سمِع اسم الصوابر ... فتسارعت دقّات قلبه شوقا لمعرفة ماذا سيصنَعُ الفارس ُ ذو الخوذة الصفراء بأرض الصوابر الجميلة ...
فسمعه مُكمِلا حديثهُ يقول ...
وأما الصوابر ... فمشاريعنا بها جامحةٌ كبيرة ...
فهل ترى يا صاحبي هذا المسجد القديم هنا ؟!
سأهدمه .. وأبني بدلا منه سوقا تجاريا ضخما تتهافت إليه الناس ..ولكني سأخصص بإحدى طوابقه مصلى ... كي يجتمع به أهل الحي لأنني لا أريد أن أجعلهم يذهبون إلى مساجد بعيدة وسيستطيعون أن يروا المحلات التجارية وهم في طريقهم للمصلى مما سيدفعهم إلى الشراء لاحقا .. وتلك فكرةٌ ذكية !
وهل ترى يا صاحبي هذا المقهى العربيّ القديم ؟
انظر إلى موقعه كم هو مميَّز ...
سأهدمه .. وأبني بدلا منه مقهى أجنبي جديد ولكنني سأضع به لائحة مشروبات قديمة كي يستشعر أهل الحي الماضي ويتعرَّف هؤلاء الجهلة مذاق المشروبات الأمريكية والفرنسية الشهيرة ...
و هنا .. نعم هنا ... هل ترى بقعة الأرض تلك التي بجانب الطريق ؟! تلك التي تحوي دكّان ...
سأعيد بناء هذا الدّكان البائس وسأجعله مصنع شوكولاتة صغير ... وأضع به بعض أنواع الحلويات القديمة التي تتناسب مع المكان الجديد ... فأسعار تلك الحلويات رخيصةٌ جدا بلا ربحٍ يذكر .. بينما المكان والموقع مميزان جدا ونستطيع أن نجلب من خلال موقعه الاستراتيجي زبائن كُثُر ......
وقبل أن يكمل ذاك الفارس بالخوذة الصفراء حديثه ... طار العصفور إلى بعيد ولم يدرِ إلى أين يذهب ؟! أيعود إلى العجوز حيث الأمانِ وزهرُ البنفسج ويروي للعجوز ما سمع ؟!
فخاف عليها هنا الصّدمةِ وسوء المطّلَع !! ....
أم يذهب إلى سكان الحي ويخبرهم عن عظمِ هولِ ما سمع ؟! فتتحطم سعادتهم وتهدّم أحلامهم !! ...
فاحتار ...... وقرر أن يطير عاليا إلى السماء الملوّنة .. وأغمض عينيه .. وشَرِعَ بالبكاء ... ولم يفتح عينيه فلا مفترق طرق بالسماء... ولا أصوات عالية تحوي بداخلها قلوبا طامعة ! ... وأخذ يعصف بجناحيه لكي يرحل إلى السماء الملّونة ...
وكأنه يناجي ربه كي لا يصْنَعُ القدر ما خططه الشرير الأصفر ! ...
وفجأةً .... وجد العصفور الأزرق جسدهُ يتهاوى إلى الأرضِ بعد ارتطام ...
ففتح عينيه ... ليجدَ ناطحة سحاب ... زرقاءٌ زجاجية ... يكادُ لا يميَّزُ الواقع والخيال من انعكاسات زجاجها الخدّاع ...
فسقط طريحاً ذاك العصفور الأزرقُ من وهمِ هذا الخيال .... وتذكر أرض الصوابر ِ وقال لها ..
... ليت الحياة تعود فيك وفينا ...
والغريب ليس غريبُ الدار والوطنِ إنما الغريبُ غريبٌ بالهويّةِ والقيمِ ...
دثّريني بتُربِك فلا مقام لي هنا ...
دثّريني قبل أن يسود الظلام ...
دثّريني بتربتُكِ القديمة .. فها هنا أرى البراءة والحياة ....
جميل جداً!!
Deleteأعجبتني الملاحظة أن التطور عندنا كثيراً ما لا يكون أكثر من نسخة سيئة للماضي
صحيح 😊..
ReplyDeleteنسخة سيئة مجردة من ملامح الحياة...